في ظل أزمة اقتصادية متفاقمة وعقوبات دولية مشددة، جاءت المنحة القطرية التي وافقت عليها واشنطن لتمويل جزء من رواتب موظفي القطاع العام في سوريا كخطوة لافتة تفتح باب التساؤل حول دلالاتها وأثرها. فبين من يراها بداية تحول في الموقف الدولي تجاه الحكومة الانتقالية، ومن يعتبرها إجراءً فنياً محدود التأثير، تبرز أبعاد سياسية واقتصادية وأمنية متشابكة، تجعل من هذه المنحة أكثر من مجرد دعم مالي مؤقت، بل اختباراً أولياً لإمكانية إعادة تشكيل العلاقة بين سوريا والمجتمع الدولي، ولما إذا كانت تمهد لتخفيف تدريجي في الضغوط أو تظل حالة استثنائية محكومة بالظرف الراهن.
وفي تطور لافت يحمل أبعاداً اقتصادية وسياسية، كشفت وكالة “رويترز”، في الثامن من أيار/ مايو الجاري، أن الولايات المتحدة وافقت على مبادرة قطرية لتمويل رواتب موظفي القطاع العام في سوريا، باستثناء موظفي وزارتي الداخلية والدفاع في الحكومة الانتقالية.
وهذه الخطوة، التي تأتي في ظل استمرار العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا منذ سنوات، تُعد الأولى من نوعها منذ تولي الحكومة الانتقالية إدارة البلاد، وتطرح تساؤلات جوهرية حول ما إذا كانت هذه المنحة بداية دعم خارجي مستدام يمكن أن يسهم في إنعاش الاقتصاد السوري، أم أنها تندرج ضمن حالة استثنائية ذات أهداف محدودة ومؤقتة.
استثناء مشروط من العقوبات
وفق ما نقلته “رويترز” عن ثلاثة مصادر مطلعة، فإن قطر حصلت مؤخراً على إشعار رسمي من واشنطن بالموافقة على المضي في تنفيذ المبادرة، على أن يصدر مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية (OFAC) خطاباً رسمياً قريباً يؤكد فيه إعفاء المبادرة من القيود المتعلقة بالعقوبات المفروضة على سوريا.
وتأتي هذه الخطوة بعد تردد قطري في إطلاق المبادرة دون ضمان قانوني واضح، في ظل استمرار إدراج مؤسسات الدولة السورية ضمن قوائم العقوبات الأميركية.
ورغم أن المبادرة تستثني الوزارات السيادية، إلا أن محللين اعتبروا أن مجرد السماح بتمويل رواتب العاملين المدنيين من قبل طرف خارجي يمثل تحولا نسبياً في تعاطي الولايات المتحدة مع الحكومة السورية الانتقالية، لا سيما في ظل حالة الجمود السياسي والاقتصادي التي تعيشها البلاد.
تفاصيل الدعم المالي وأهدافه
وزير المالية في الحكومة السورية الانتقالية، محمد يسر برنية، رحّب بالمبادرة القطرية، مشيداً بـ”الاستجابة السريعة من وزارة الخزانة الأميركية لتسهيل تنفيذ المنحة واستثنائها من العقوبات”، وفق ما نقلته وسائل إعلام رسمية.
وأوضح برنية أن قيمة المنحة تصل إلى 29 مليون دولار شهرياً، مخصصة لدفع رواتب الموظفين في قطاعات الصحة والتعليم والشؤون الاجتماعية، إضافة إلى المتقاعدين من غير العسكريين. وأكد أن “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي” سيتولى إدارة المنحة والإشراف على توزيعها، ما يمنحها غطاءً قانونياً وتنظيمياً دوليًا، ويعزز من الشفافية في صرفها.
وأشار برنية إلى أن المنحة ستغطي قرابة خمس فاتورة الأجور في القطاع العام، مؤكدًا أن الحكومة ستتكفل بتأمين الفارق اللازم لتوسيع الزيادة لتشمل موظفين آخرين، وأن عملية الصرف ستبدأ اعتبارًا من شهر حزيران/ يونيو المقبل.
وتوقعت مصادر اقتصادية أن تتيح هذه الخطوة رفع الرواتب بنسبة تصل إلى 400% لأكثر من مليون موظف حكومي، مما قد ينعكس إيجابًا على الوضع المعيشي المتردي لشريحة واسعة من السوريين.
الخطوة القطرية جاءت متزامنة مع زيارة رسمية أجراها رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا، أحمد الشرع، إلى فرنسا ولقائه بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في السابع من هذا الشهر.
وقد شدد الأخير، خلال اللقاء، على ضرورة التوصل إلى “عملية سياسية شاملة دون إقصاء لأي طرف”، وأعرب عن دعم بلاده لرفع العقوبات المفروضة على سوريا، بما في ذلك العقوبات الأميركية، وهو ما اعتُبر مؤشراً إضافياً على انفتاح أوروبي محتمل على الحكومة السورية الانتقالية.
اقرأ أيضاً: الشرع يصل العاصمة الفرنسية باريس في زيارة رسمية – 963+
جدوى اقتصادية محدودة أم بداية مرحلة جديدة؟
الباحث في الاقتصاد الكلي عبد العظيم المغربل علّق على المنحة بالقول لـ”963+” إنها “قد تُحدث تحسناً مؤقتاً في القوة الشرائية للفئات المستهدفة، ما قد يمنح السوق انطباعاً مبدئياً بالاستقرار”. إلا أنه حذر من أن هذا التحسن “قد يغذي التضخم إذا لم يُقابل بزيادة موازية في الإنتاج الوطني”.
وأضاف المغربل: “تمويل الرواتب إجراء إسعافي مهم، لكنه لا يعالج جذور الأزمة الاقتصادية، المتمثلة في ضعف الإنتاج، وانهيار البنية التحتية، وغياب مناخ استثماري آمن”. ودعا إلى “تحفيز الإنتاج المحلي، وتشجيع الاستثمارات، وإصلاح البيئة القانونية والمؤسساتية، كمدخل حقيقي لتحسين الاقتصاد السوري”.
وحول الأبعاد السياسية، رأى المغربل أن المنحة “تحمل دلالة إيجابية من ناحية الانفتاح الدولي، لكنها لا تكفي لجذب استثمارات حقيقية أو تمويل طويل الأمد”، مضيفاً: “المطلوب من الحكومة الانتقالية الآن هو العمل على تعزيز الشفافية، واستقلال القضاء، وإعداد خطة اقتصادية شاملة قابلة للتنفيذ، لإقناع المانحين بجدوى تقديم دعم مستدام”.
تقارب إقليمي ودولي؟
من جانبه، اعتبر الكاتب والباحث السياسي الدكتور عمران زهوي أن المنحة “تمثل خطوة استراتيجية تتجاوز البعد الإغاثي، وتهدف إلى تمهيد الطريق أمام عودة سوريا إلى محيطها العربي”.
وأوضح أن “الدعم القطري يسهم في استعادة جزء من التوازن المالي، ويمكّن الحكومة من تنفيذ إصلاحات إدارية في قطاعات حيوية، مما يخفف من الضغط على الموازنة العامة”.
وأضاف زهوي في تصريح لـ”963+”: “هذه الخطوة قد تكون نواة لتحريك عجلة الاقتصاد السوري، خاصة إذا تم ربطها بمشاريع إنتاجية، وتحقيق استقرار نسبي في السوق”.
ولفت إلى أن هناك تحوّلاً في السياسة الأميركية بعد فشل مقاربة إدارة ترامب السابقة، مشيرًا إلى أن “الضوء الأخضر الأميركي لهذه المنحة يعكس رغبة واشنطن في إدارة الصراعات عبر وسائل اقتصادية وسياسية، بدلاً من أدوات المواجهة المباشرة”.
واعتبر زهوي أن “التعامل مع حكومة الشرع ليس محصورًا في الجانب الإنساني، بل يعكس توجهًا أميركيًا لإعادة رسم النفوذ الإقليمي بما يضمن مصالحها في المنطقة”، مؤكدًا أن “سوريا ستبقى محورًا استراتيجيًا في المعادلة الإقليمية والدولية”.
اقرأ أيضاً: كيف سينعكس التمويل القطري للرواتب على الأوضاع الاقتصادية وسعر صرف الليرة السورية؟ – 963+
الأثر الأمني والسياسي
أما العميد الركن الدكتور حسن جوني، أستاذ العلوم السياسية، فقد اعتبر أن المنحة “خطوة ذات أبعاد سياسية كبيرة وإن كانت محدودة الأثر الاقتصادي”، لافتاً إلى أن حجمها لا يتجاوز خمس الرواتب المطلوبة، ما يعني أنها “ليست حلاً اقتصادياً شاملاً، لكنها قد تُسهم في تحريك بعض عجلات الاقتصاد بشكل أولي”.
وأضاف جوني: “ما يمنح هذه الخطوة أهمية هو السياق السياسي المحيط بها، حيث تزامنت مع تصعيد أمني في بعض المناطق، مثل السويداء، وزيارات دبلوماسية رفيعة، وتصاعد التنافس الإقليمي في الداخل السوري”، مشيراً إلى أن “السماح الأميركي بتمرير المنحة قد يكون جزءًا من اختبار دولي للسلطة الانتقالية في سوريا، ومقدمة لانفتاح مشروط على دمشق”.
واختتم جوني تصريحه قائلاً: “الاستجابة الأميركية لا تعني دعماً مفتوحاً، بل تُمثل اختباراً تدريجياً مرهوناً بتطورات داخلية، أبرزها إشراك المكونات السياسية المختلفة، وتقديم إصلاحات تدريجية. كما أن موقف الحكومة من إسرائيل سيبقى عنصراً حاسماً في تحديد ملامح المرحلة المقبلة”.
وتفتح المنحة القطرية الباب أمام نقاش واسع حول مستقبل الدعم الدولي لسوريا، وتُسلط الضوء على احتمالات الانتقال من حالة العزلة إلى الانفتاح المشروط، ومن الدعم الإغاثي إلى المساهمة في التعافي الاقتصادي.
لكن في المقابل، تبقى محدودية المنحة، واستمرار العقوبات، وضعف البنية الاقتصادية، عوامل تحدّ من أثرها الفعلي. ورغم أن الخطوة تحمل في ظاهرها بعداً إنسانياً، إلا أن السياقات السياسية المحيطة بها تشير إلى رغبة متزايدة لدى بعض الأطراف الدولية في اختبار إمكانيات الاستقرار في سوريا، تمهيداً لمرحلة جديدة قد تتطلب توافقات إقليمية ودولية أكثر عمقاً.
وفي ظل هذا الواقع، تبدو الحكومة الانتقالية أمام فرصة حقيقية لإثبات الجدارة والكفاءة، لكنها في الوقت ذاته مطالبة بخطوات حاسمة تتجاوز الإدارة اليومية نحو التخطيط الاستراتيجي الشامل، لضمان أن لا تبقى هذه المنحة مجرد استثناء عابر في زمن الأزمة.
نشرت هذه المادة في العدد الحادي عشر من صحيفة “963+” الأسبوعية والصادرة يوم الجمعة 16 أيار /مايو 2025.
لتحميل كامل العدد الحادي عشر من الصحيفة النقر هنا: الصحيفة – 963+