أن يقول رئيس الوزراء العراقي السابق، وأحد أركان “الدولة العميقة” في النظام السياسي العراقي الحالي، نوري المالكي، لوسيلة إعلامية محلية، وبعد أسابيع قليلة من سقوط النظام السوري السابق، كلاماً واضحاً مثل “الشيعة سينفردون بالنفط إذا اجبروا على التقسيم”؛ فأنه يؤشر إلى حدوث تحول جذري في بنية الفعل السياسي في هذا البلد، خطابه وخياله العام، آليات عمله ومقاصده وأدواته المُستخدمة في الإنتاج السياسي. متأت من الحدث السوري، وكنتيجة لتبدل العلاقة مع هذا البلد “الجار”.
حتى قبل أسابيع قليلة، كانت مثل تلك الأحاديث من “المحرمات السياسية” في العراق. فالمالكي، ومثله كل قادة “الإسلامي السياسي الشيعي” في العراق، القائمون على النواة الصلبة في النظام السياسي في البلاد، ومعهم تنظيماتهم السياسية واستطالاتهم الإعلامية وخطابهم العام، كانوا يُجرمون التوجهات التي مثل تلك، ولو على سبيل الافتراض والتفكير السياسي. مستندين في ذلك إلى ما يفترضون أنه “الحقيقة السياسية”، التي تمنحهم “العراق كله” حسب رأيهم، وإلى الأبد. فالسُنة العرب العراقيون كانوا مُستضعفين سياسياً وحياتياً، بعد حُقبة داعش التي حطمتهم تماماً، لأنهم كانوا دون أي ظهير إقليمي وحتى دولي. وتالياً كان يُمكن استيعابهم سياسياً وأمنياً عبر خطاب “وطني” فوقي، يتهم كل المطالبين بحقوقهم السياسية بالطائفية ودعم الإرهاب. وسقوط النظام السوري أحاط بتلك “الحقيقة”، وتالياً يجب قطع العلاقة مع النظام السوري، حسبهم. فما يُمكن تسميته بـ”تحول المالكي”، وتالياً تحول النظام السياسي في العراق، مرتبط جذرياً بـ”التحول السوري”، أو نتيجة.
فالعلاقة بين نظام البلدين، والتي صُورت خلال السنوات الطويلة الماضية على أنها “علاقة بين دولتين شقيقتين”، كان النظام العراقي يروج نفسه كـ “مُدافع عن سوريا وأمنها”، صار واضحاً أنها كانت علاقة مُشيدة على أسس طائفية، كان النظام العراقي يدعم فيها نظيره السوري، بكل أفعاله، بحثاً وتمتيناً لموقع “الشيعية السياسية” في المنطقة، بكل تفرعاتها. وما أن سقط النظام السوري، الذي كان واحداً من أركان تلك البنية الإقليمية لـ”الشيعية السياسية”، حتى سقطت معه “علاقات الأشقاء”، وصار العراق يعتبر سوريا مصدراً أولياً ورئيسياً للقلق السياسي، ويتحسب لما قد يُصيب “سُنة العراق” من استقواء بالنظام الجديد في سوريا، والذي وصل درجة الإشارة إلى إمكانية الانفصال، كما في حديث المالكي.
ليس في الأمر أية جديد. فمنذ نشأتهما ككيانين متجاورين حديثين، قبل قرابة قرن من الآن، تظهر “مكاذبة” العلاقات الأخوين بين البلدين، كجذر تكويني للعلاقة القلقة بين البلدين، أو النظام السياسي الحاكم لهما على الأقل. فهي ما تلبث أن تتبدل وتظهر على العكس تماماً مما كانت عليها، خلال أسابيع وشهور قليلة.
الأمثلة التاريخية حول ذلك لا تُعد لكثرتها.
ففي خمسينات القرن المنصرم، كان العراق الملكي يعتبر سوريا دولة شديدة القُرب، لو كان الحزب الحاكم لسوريا هو “حزب الشعب”، ذو الهوى “الحلبي”، القريب من العراق. لكن إذا ما كانت الكتلة الوطنية بقيادة الرئيس شكري القوتلي تستلم دفة الحُكم، وهو المعروف بعلاقاته الاستثنائية مع كل من مصر والعربية السعودية، كان العراق يستخدم كل أدوات قوته لتقويض العلاقة مع سوريا.
في أوائل الستينات، وما إن نفذ حزب البعث انقلابين متتالين في البلدين، بفارق شهر واحد، وصلت علاقتهما إلى ذروة نشطاها؛ لكن ما أن أنقلب القوميون العراقيون على حزب البعث في العراق، حتى عاد العداء بينهما مرة أخرى.
في أواخر الستينات، ومع عودة البعث مرة أخرى إلى حُكم العراق عام 1968، رجعت نسائم السماء تجري بين النظامين البعثيين الحاكمين؛ لكن مع استقبال البعثيين العراقيين لأعضاء القيادة القومية لحزب البعث، المنفيين من قِبل البعثيين السوريين، ساءت العلاقة بينهما مجدداً.
في أواسط السبعينات، وبسبب تخوف رئيسي البلدين، أحمد حسن البكر في العراق وحافظ الأسد في سوريا، من تنامي نفوذ نائب الرئيس العراقي صدام حسين وقتئذ، تقارب الطرفان مجدداً، وصارا يطرحان مشاريع للوحدة الاندماجية، ووقعا وثيقة في ذلك الشأن. لكن ما أن انقلب صدام حسين على البكر، حتى شهدت علاقة البلدين أطول مرحلة قطيعة سياسية على الأطلاق. استخدما فيها كل أشكال النكاية السياسية والحرب الاقتصادية والمواجهات الإعلامية.
في أواخر الألفية الماضية، وما أن استشعر نظاما البلدان خطراً داهماً من التدفق الأميركي نحو المنطقة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، حتى تقاربا تماماً، وعادت العلاقات بينهما لذروة الوئام. لكن ما أن بدأ/انتصر المشروع الأميركي في العراق، حتى صار النظام السوري المصدر الأول للإرهابيين إلى العراق، يسعى قدر المُستطاع للإطاحة بكل شيء في هذا البلد. وصل الأمر برئيس الوزراء نوري المالكي عام 2009 إلى التهديد بشن حرب على سوريا.
لكن ما أن حدثت الانتفاضة الشعبية ضد النظام السوري بعد شهور قليلة من ذلك، عاد الوئام بينهما من جديد، مبنياً على خطاب واستراتيجية طائفية غير مُعلنة. لكن الأمر عاد للصِدام مرة أخرى بعد سقوط النظام السوري.
كل تلك المحطات تكشف شيئاً واحداً في عالم سياسة البلدين، وربما لكل المنطقة: لا سياسة ولا مصالح ولا أسس ولا منطق لشكل علاقات البلدان، ثمة “أشباه آلهة” تحكم كلا البلدين، تصل علاقات البلدين إلى للذروة التوافق، بسبب مصالحها الذاتية فحسب، ثم يُطاح بها فجأة، أيضاً بسبب المصالح الذاتية للحاكمين، دون خشية من أحد، أو حسابات خاصة بالمجتمعات البشرية في البلدين، خلا سلطة ومصالح الحاكمين لهما فحسب، والأمر هذا مُستمر منذ قرن.