“إن سكنتَ في خيمتك أخرجوك، وإن تكلمتَ معترضاً أحرجوك، وإن أويتَ إلى أصحابك شتموك… وإن سعيتَ إلى لقمة عيشك تحرّشوك. غلط تحرّشوك. مو؟”. كانت متعبةً جداً، فما شئت أن أشعرها بأسى فوق أساها.. “ضابطة يا خالة.. ضابطة”.
لا سخرية في هذا الكلام، إنما هو اختزال مؤلم لحالٍ من البؤس تعيشه المرأة السورية اللاجئة قسراً في لبنان، ولا تنتهي فصوله، إذ تضاف إلى معاناة يقاسيها اللاجئون السوريون في لبنان، لا سيما النساء والأطفال الذين يشكلون الفئة الأكثر عرضة للانتهاكات في مجتمعاتنا العربية. غير أن قضايا التحرش والاغتصاب داخل المخيمات تبقى بعيدة عن الأضواء إلى حد ما، ناهيك عن شبه انعدام كامل لأي حماية مقدمة للضحايا، أو حتى أي رعاية صحية ونفسية وجسدية. فتبقى اللاجئة أسيرة جراح أليمة تنهش روحها وترافقها مدى الحياة.
عنف مروّع
في تشرين الأول/أكتوبر 2023، أعرب “المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان” عن قلقه العميق “إزاء استمرار العنف القائم على النوع الاجتماعي ضد اللاجئات السوريات في لبنان، وغياب العدالة القانونية للناجيات في ظل موجات العنصرية والعنف ضد اللاجئين السوريين في البلاد”.
وقال المرصد في بيان: “على الرغم من مصادقة لبنان على العديد من القوانين الدولية، بما في ذلك اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، تسجل إخفاقات كبيرة في حماية اللاجئات السوريات من العنف القائم على النوع الاجتماعي”، مشيراً إلى أن السوريات شكّلن نحو 74 في المئة من الناجيات من العنف المبني على النوع الاجتماعي في عام 2022، وأنّ الوضع القانوني غير المؤكد لنحو 85 في المئة من النساء السوريات في لبنان يُعدّ عائقًا أساسيًّا يمنع الناجيات من السعي إلى التماس العدالة القانونية. وبدلًا من الحصول على الحماية، تتعرّض الناجيات لخطر عنفٍ ثانوي، مثل الاحتجاز أو يتم إجبارهنّ على العودة إلى سوريا”.
تعرّضتُ وابني للتحرش
تكشف اللاجئة السورية سميرة البعريني (أم عماد) عن تعرضها للتحرش أكثر من مرة خلال عملها في خدمة المنازل، ما دفعها لترك العمل. وتعرّض ابنها بدوره للتحرش ما سبّب له مشاكل عديدة دفعتها إلى تغيير مكان سكنها. تقول البعريني لـ”963+”: “لم ترحمني الحياة. أُصبت بمرض السكري وأعاني مشاكل في القلب وضغط الدم، ولم أعد قادرة على العمل خارج البيت. الأوضاع صعبة جدًّا، والأصعب هو توفير المواد الغذائية والأدوية اللازمة لي، ولابني الذي يشكو من مرض الربو، إلى جانب نطقه غير السليم”.
سجّلت البعريني ابنها في جمعية معنية بحالته، “لأنه يتعرض للضرب والإهانة من أطفال في الشارع، وفصلته إدارة المدرسة مرتين بسبب مشاكله في النطق”.
أم عماد التي لجأت من ريف حمص إلى لبنان في العام 2013، تتحدث عن الضغوط النفسية التي تختبرها يوميًّا: “نعيش بلا أي نوع من أنواع الحماية. ولأول مرة أسمع بدورة توعوية حول الوقاية من العنف. فكان أن شاركت في أولى جلساتها، وشرحوا لنا سبل حماية أنفسنا وزوّدونا برقم هاتف للتواصل في حال تعرّضنا لأي انتهاك”.
وتكشف البعريني، التي تتحسّر على حال جميع اللاجئات، كيف تتعرض جارتها وبناتها للضرب والإهانة من زوجها، “إضافة إلى حالات التحرش العديدة التي تنعكس سلبًا علينا وعلى أطفالنا”، مضيفةً أن التحرّش الكلامي والجسدي زاد في الأيام الأخيرة، مع تصاعد الحملة الأمنية الرسمية والعنصرية غير الرسمية على اللاجئين السوريين. تقول: “هذه الحملة الشعواء حولتنا أهدافاً للتحرش، وكأن جنسيتنا السورية تمنحهم الحق في الاعتداء علينا جنسياً”.
ذلّ مقابل دولار في اليوم
من جهتها، تسرد نجوى (اسم مستعار) رحلة آلامها وعذابها، وهي اللاجئة السورية الكردية التي لجأت بداية إلى العراق، قبل أن تهرب برفقة ابنتها (14 سنة) وولدَيها التوأم (سبع سنوات) إلى لبنان، بعد معاناتها مع زوجها وأهله وذويها على حد سواء. نجوى التي تعرضت لحادث سقوط أصيبت على إثره بكسور في الظهر، تركها زوجها تتألم عوض نقلها للمستشفى.
تقول لـ”963+”: “كان زوجي مدمناً على الكحول. يثمل ويقوم بتعنيفي وضربي. وكل يومين يطردني وأولادي خارج المنزل ليلاً. هربت إلى لبنان، وأعمل في فرن للمناقيش مقابل ربطة خبز و100 ألف ليرة لبنانية (نحو دولار أميركي) في كل يوم لإعالة أولادي الثلاثة، ومع هذا عليّ تحمّل كل ما يُوجّه إليّ من إهانات وكلام بذيء. وكانت ابنتي تعمل وتأتي أغلب الأيام مرتعبة وباكية، جراء تعرضها للتحرش والملاحقة من بعض الشبان، فقررت توقيفها عن العمل، خصوصاً بعدما تصاعدت حدة التحرّش اللفظي في الأيام الأخيرة، تاثيراً بالحملات العنصرية علينا نحن اللاجئات السوريات”.
نجوى تعاني من آلام في الظهر ومن مرض الربو ونقص في الأوكسجين، وتتقاضى 80 دولارًا أميركيًّا فقط من مفوضية الأمم المتحدة، تدفع منها 70 دولارًا قيمة إيجار البيت. وتضيف: “صاحب البيت لا يرحمني. حاول التحرش بابنتي. هددنا برفع قيمة الإيجار علماً أنّنا نعيش في منزل يشبه المخزن. ومنذ ذلك الوقت أخبّئ ابنتي عنه”.
نخشى الخروج
تسهب اللاجئة السورية ابتسام سلطان في وصف الصعوبة التي تواجهها اللاجئات، وتقول لـ”963+”: “نخشى الخروج كي لا نتعرض للتحرش. نخاف على أولادنا الذين يتعرضون للانتهاكات والضرب، فقط لأنهم سوريون. أنا أم لأربعة أطفال لا أرسلهم إلى الدكان أو أي مكان، لا سيّما أن الدعم الذي تقدمه المنظمات والجمعيات بات شبه معدوم، ناهيك عن انتفاء أي دعم نفسي أو حماية تُذكر، سواء للنساء أو الأطفال”.
وتتابع سلطان: “يزورنا ممثلو بعض الجمعيات بنيّة تقديم الدعم والحماية، غير أنهم يأخذون أسماءنا ويختفون. فهل يتم استغلالنا لتوسّل دعم الجهات المانحة؟!. تعبنا وتأزّمت أوضاعنا ولا أمل أمامنا سوى الهجرة إلى بلد ثالث. حتى أن أولادي تعبت نفسيّتهم، وحاولتُ اصطحابهم لطبيب نفسي. لكن هناك تقصير كبير في خدمات الطبابة والأدوية”.
وتلفت ابتسام إلى أنّ زوجها يعمل بائعًا متجوّلًا، ويخبرها عمّا يراه يوميًّا من حالات تحرش وانتهاكات بحق اللاجئات.
ثالث أكثر أنواع العنف
تفيد المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) بأن لبنان يُعتبر الدولة التي تستضيف أكبر عدد من اللاجئين بالنسبة إلى عدد السكان. وبحسب التقديرات الحكومية، يعيش في البلاد 1.5 مليون لاجئ سوري و 11,645 لاجئًا من جنسيات أخرى. ويبلغ إجمالي عدد اللاجئين السوريين المسجلين لدى المفوضية السامية 784,884 لاجئًا.
ويلفت تقرير صادر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان في لبنان (UNFPA) بشأن العنف القائم على النوع الاجتماعي لعام 2022، إلى أن “النساء والفتيات لا زلن يشكلن الأغلبية (95 في المئة) من الناجين.
كما أن الناجيات من نساء وفتيات يواجهن مخاطر متعلقة بالعنف القائم على النوع الاجتماعي ويتعرّضن بشكل مستمر لصعوبات مختلفة في حياتهنّ اليومية، بسبب عوامل عدة، بينها الوضع الاقتصادي والاجتماعي، العادات والتقاليد والموروثات الثقافية، المفاهيم والمعايير المتعلقة بالجنس والجنسية والمستوى التعليمي وتلك المتعلقة بذوي الاحتياجات الخاصة، وظروف العيش أو العمل”.
ويكشف التقرير أن “الاعتداء الجسدي والإساءة النفسية أو العاطفية هما الأكثر شيوعًا بين أنواع العنف القائم على النوع الاجتماعي، حيث يمثلان 33 في المئة و32 في المئة على التوالي”.
أما العنف الجنسي، بما في ذلك الاغتصاب والاعتداء الجنسي، فهو ثالث أكثر أنواع العنف القائم على النوع الاجتماعي، إذ تم الإبلاغ عنه بنسبة 16 في المئة، يليه الزواج القسري (10 في المئة) أو زواج الأطفال والحرمان من الموارد والفرص (9 في المئة).