العلمانية في العالم المعاصر، وخاصة الغربي، توصف بالغموض لتعقيدها وتعدد تعريفاتها. فهي ليست قالبًا سياسيًا ثابتًا، بل مبدأ مرن يتكيف مع السياقات الاجتماعية والسياسية المختلفة، ويتشكل تبعًا للتأثيرات الأيديولوجية المتنوعة.
في الدول الاشتراكية الماركسية، ترتبط العلمانية بالإلحاد، حيث تُرفض المؤسسات الدينية كجزء من البنية الفوقية التي تسعى لتكريس الاضطهاد الطبقي، وتفرضها الدولة بشكل مطلق. في المقابل، العلمانية في الديموقراطيات الليبرالية تفصل الدين عن الدولة مع الحفاظ على حرية التعبير الديني. أصل كلمة “العَلمانية” من اللاتينية “saecularis”، بمعنى “دنيوية”، وتطورت لتعني فصل الدين عن الشؤون العامة. في الإنكليزية، تعني فصل الدولة عن المؤسسات الدينية، لضمان حياد الحكومة وحفظ السياسات العامة من التأثيرات الدينية.
وتتخذ العلمانية أشكالاً مختلفة بحسب السياق. ففي الولايات المتحدة، تركز على “فصل الكنيسة عن الدولة”، لكن مع حماية حرية العبادة، ما يضمن التعددية الدينية. بينما في فرنسا، يتبع نهج “laïcité” الصارم، بحظر الرموز الدينية في المؤسسات العامة لضمان حياد الدولة. تركيا، تحت قيادة أتاتورك، فصلت الدين عن الدولة لتحديث البلاد، متبعة قوانين أوروبية. أما في سوريا، وغيرها من الدول العربية، تُفهم العلمانية أنها فصل الدين عن الشؤون السياسية والعلمية، ما يعزز الحداثة، لكن التطبيق يواجه تحديات عديدة أهمها الأيديولوجيات السياسية السائدة.
تؤثر الأيديولوجيات المختلفة على كيفية فهم وممارسة العلمانية بطرق تعكس الأولويات الثقافية والسياسية لكل مجتمع. من النماذج الماركسية التي تروج لعلمانية تعارض بشكل كامل أي تأثير للدين في الشؤون العامة، إلى النماذج الليبرالية التي تدمج الحريات الدينية ضمن نطاق علماني يحترم التنوع والحريات الفردية، وتباين التطبيق يظهر تأثير هذه الأيديولوجيات على السياسات العامة. بالتالي، إن الفهم العميق لهذه الديناميكيات يسمح بتقييم أكثر دقة للتحديات والفرص التي تواجه تطبيق العلمانية في السياق السوري.
في هذا الإطار، يمكننا أن نرى كيف تتجلى التأثيرات العملية للعلمانية في تحقيق التوازن بين الحرية الدينية والعدالة الاجتماعية. على سبيل المثال، في المجتمعات الديموقراطية التي تتبنى العلمانية الليبرالية، يُسمح بتعبير حر عن الأديان في الفضاءات العامة والخاصة، شريطة ألا تتعارض هذه التعبيرات مع حقوق الآخرين أو النظام العام. خطب الجمعة، التعبير عن المواقف الدينية، إظهار الرموز الدينية، وممارسة الطقوس في الأماكن العامة، كلها يمارسها السوريون بحرية أكبر كثيراً في هذه المجتمعات الليبرالية الغربية مقارنةً ببلدهم الأم سوريا، حيث تكون هذه التعبيرات، غالبًا، مقيدة أو موجهة بشدة من قبل أجهزة الدولة. هذا النمط من العلمانية يؤكد على أهمية الحفاظ على فضاء عام يتيح لجميع المعتقدات أن تُعبر عن نفسها بحرية، مع الحفاظ على النظام واحترام القوانين.
العلمانية ليست مجرد انحسار للمعتقد الديني
تتنوع تأثيرات العلمانية على مستويين أساسيين: أولًا، علمنة الفضاء العام بفصل الدين عن الدولة، ما يتيح للأفراد المشاركة في المجتمع والسياسة من دون التأثر بالمفاهيم الدينية؛ ثانيًا، تراجع الدين وانخفاض أعداد المتدينين، ما يقلص دور المؤسسات والنصوص الدينية، وهي ظاهرة شائعة في الغرب وشمال أوروبا. في هاتين الحالتين، قد تظهر العلمانية قوة تصادمية ومنافسة للمؤمنين المتدينين.
على الرغم من أن الثورة العلمية الأولى لم تؤثر مباشرةً في مستويات الإيمان أو حضور الكنائس في القرن الخامس عشر، ولم يُعتبر الإلحاد خيارًا حتى منتصف القرن التاسع عشر، فإن التوجه المعاصر نحو مسارات روحية متنوعة يمثل ردة فعل على النزعة المادية العلمية. هذا التحول يدحض فكرة “موت الله” المطروحة في نهاية القرن التاسع عشر، ويبيّن أن تجدد الإيمان في القرن الحادي والعشرين ليس مغالطة. التغيرات في الإيمان هي جزء من عملية مستمرة طويلة الأمد، وليست نتيجة فورية للثورة العلمية. مقارنة الإيمان بالله مع الاعتماد على علم الأرصاد يُبسط الأبعاد الفلسفية والعاطفية للإيمان بشكل غير ملائم.
كانت نظرية التطور التي طرحها داروين في منتصف القرن التاسع عشر العامل الأكبر الذي أثر في الإيمان المسيحي، حيث أعادت تصور العقل والعواطف والغرائز البشرية كتكيفات بيولوجية، ما قوض فكرة تمركز الإنسان في الكون. على الرغم من ذلك، ربما لم يستطع داروين تصور عالم من دون إله؛ فالإيمان بالله كان شبه بديهي منذ العصور القديمة وحتى القرنين الأخيرين. كان التفكير في عدم وجود الله يُماثل وضع القابس في المقبس من دون الإيمان بوجود الكهرباء. في العصر الحديث فحسب، بدأ يُنظر إلى الإيمان بالله كخيار بين خيارات أخرى، وغالبًا ما يكون غير الخيار الأسهل.
العلمانية وتحدياتها في الحالة السورية
تطوير العلمانية في الغرب ارتبط بالفصل بين الكنيسة والدولة، لكن تطبيق نموذج مماثل في بلد مثل سوريا، حيث يمثل المسلمون الأغلبية، يواجه تحديات فريدة بسبب التداخل التاريخي بين الدين والحكم وطبيعة الدين نفسه. في هذه المجتمعات، الدين ليس مجرد ممارسة روحية، بل هو جزء أساسي من الهوية الوطنية والقانونية. لذا، عند استكشاف تطبيقات العلمانية، يجب أن نأخذ في الحسبان كيفية تكييف هذه الأفكار مع البنية الثقافية والاجتماعية الحالية، بما يحفظ الهوية الثقافية، ويعزز مبادئ الحكم الرشيد والديموقراطي العلماني.
إن تحليل العلمانية في السياق السوري يكشف تباينًا مع النماذج العلمانية الغربية، حيث يتأثر هذا التباين بعوامل ثقافية وتاريخية واجتماعية وسياسية معقدة. الدين بمفرده لا يفسر الفروقات الكبيرة بين الدول العربية في تكامل الشريعة ضمن الأنظمة القانونية والدساتير. لو كان للدين تأثير موحد، لما وجدنا هذا التنوع بين الدول التي تعتمد على الشريعة نفسها. يُعزى هذا التنوع إلى عوامل متعددة، منها السياقات التاريخية، والموروثات الاستعمارية، والتعريفات المختلفة للإسلام، إضافة إلى تأثير القوى الخارجية والديناميات السياسية الداخلية. لا شك في أن إدراج الشريعة كمصدر رئيسي للتشريع في العديد من الدساتير العربية يبرز الدور المهم للدين في الأطر الأخلاقية والقانونية لهذه المجتمعات. مع ذلك، يختلف التنفيذ والتفسير الفعلي لهذه التفويضات الدستورية بشكل كبير، بتأثير العادات المحلية، والمناخ السياسي، ودرجة المحافظة الدينية في كل مجتمع.
في سوريا، تستخدم الدولة الدين استراتيجيًا لتوطيد السلطة وتعزيز الشرعية من خلال السيطرة المنهجية على المؤسسات الدينية ودمجها في جهاز الدولة. تسيطر الدولة على المؤسسات والشخصيات الدينية لدعم سياساتها وقمع المعارضة، ويتضح ذلك من تأميم الأوقاف الدينية ودمج المحاكم الدينية في النظام القضائي الموحد، ما يجعل المؤسسات الدينية تعتمد على الدولة في التمويل والحوكمة. تمتد هذه السيطرة إلى التعليم الديني والفضاء الديني العام لضمان توافق الخطاب الديني مع أهداف الدولة. تعتمد السلطة الحاكمة منذ انقلاب الجيش على الديموقراطية في نهاية الخمسينيات بشكل انتقائي على المبادئ الإسلامية لمواجهة التحديات السياسية وتبرير سياساتها المثيرة للجدل.
في إطار هذا الشكل من التفاعل بين الدين والدولة، تخضع المؤسسات الدينية في سوريا لنفوذ وسيطرة كبيرة من الدولة، ما يؤثر على استقلاليتها. هذه العلاقة لا تؤثر في استقلالية المؤسسات الدينية فحسب، بل تشكل أيضًا الفهم المجتمعي لدور الدين في الحياة العامة والسياسية. التحدي الذي تواجهه العلمانية يظهر بوضوح في التناقضات بين الحرية الدينية والقيود الحكومية.
بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية ونهاية الحرب العالمية الأولى، شهد الشرق الأوسط تحولاً عميقاً. فترة حكم الملك فيصل الأول القصيرة في سوريا عكست هذه التغيرات، خصوصًا عبر مسودة دستور عام 1920 الذي سعى إلى إرساء أسس الدولة القومية الحديثة. كان هذا الدستور تقدميًا، حيث تضمن مبادئ توازن بين الإسلام كدين الدولة وعناصر الحكم العلماني. على عكس التصورات المعاصرة للعلمانية، التي تثير ردات فعل دفاعية بسبب مساواتها بالإلحاد، كان يُنظر إلى الجوانب العلمانية في مشروع فيصل كأدوات للتحديث والوحدة، وليس كتهديد للهوية الدينية.
أقر مشروع الدستور بأن الإسلام دين الدولة والملك، ما يثير تساؤلات حول تحقيق المساواة. يمكن أن يُرى أن حكم الشريعة ودين الرئيس قد يقوضان المساواة وفرص الجميع للوصول إلى منصب الرئيس. مع ذلك، دافع المشروع عن القيم الليبرالية، مثل الحريات المدنية والفصل بين السلطات، واقترح نظامًا برلمانيًا يحدّ من سلطات الملك ويشجع على المشاركة الديموقراطية. تُظهر هذه الأحكام كيف يمكن للعلمانية تعزيز المساواة والحرية للجميع دون التخلي عن الدين، مما يوفق بين الهوية الدينية والقيم الديموقراطية في تشكيل مجتمع عادل ومنصف.
تجدر الإشارة إلى أن لجنة الأعيان المسؤولة عن صياغة مسودة الدستور السوري لم تمثل جميع السوريين بشكل مثالي، إذ تم انتخابها بشكل فوضوي ومستعجل لتقليص صلاحيات الملك فيصل والحد من تأثير البريطانيين والفرنسيين عليه. كان التوجه العلماني في المسودة ردًا على الادعاءات الفرنسية بحماية الأقليات. لم يكن مشروع الدستور السوري الوحيد الذي سعى إلى تأسيس نهج علماني؛ ففي العام الذي سبقه، عمل سعد زغلول خلال ثورة 1919 على ترسيخ العلمانية في مصر بفصل الدين عن السلطة السياسية، معلنًا شعار “الدين لله والوطن للجميع”، ما يؤكد أن العلمانية يمكن أن تتماشى مع الهوية الدينية.
وبينما لا يمكن تطبيق دستور عمره أكثر من 100 عام من دون تعديلات، يظل هذا الدستور مصدر إلهام للسوريين لاستخلاص مبادئ ديموقراطية ليبرالية يمكن دمجها في نظام حكم يلائم التحديات الراهنة. يتطلب ذلك إعادة تعريف مفهوم العلمانية لتوضيح طبيعتها غير العدائية تجاه الدين، والمشاركة في حوارات معمقة مع مختلف الأطراف المجتمعية. ضروريٌ أيضًا تنفيذ حملات توعية لنشر فهم جديد وإيجابي للعلمانية. بالاستناد إلى التجارب التاريخية وتكييفها مع الظروف المعاصرة، يمكن لسوريا تطوير نموذج حكم يحترم تراثها الديني الغني ويبني دولة قوية ترتكز على مبادئ الديموقراطية العلمانية.
تعود جذور العلمانية في الغرب إلى الإصلاحات المسيحية وعصر التنوير، ما أدى تدريجيًا إلى فصل الكنيسة عن الدولة. هذا يثير تساؤلات حول إمكانية تبني نموذج مماثل في سوريا، حيث يرتبط الدين تقليديًا بالحكم.
يضم الإسلام، مثل جميع الديانات الكبرى، تعريفات متنوعة تدعم إمكانية تبني نظام علماني. المبادئ مثل “الشورى” (consultation) و”الإجماع” (consensus) تعكس قيمًا ديموقراطية ويمكن أن تسهم في حكم تشاركي. كما أن مرونة الإسلام في مواقفه من قضايا معاصرة مثل الهندسة الوراثية والإجهاض توفر فرصًا للتكيف مع التحديات الأخلاقية الحديثة من دون تعارض مع التقدم العلمي. الحاجة إلى إصلاح ديني في المجتمعات الإسلامية ضرورية لنشر الفكر العلماني، خصوصًا في السياقات التي تتداخل فيها النصوص والبنية الفقهية مع شؤون الدنيا.
يكمن التحدي الأساسي في تحقيق الديموقراطية العلمانية في سوريا في الهياكل الثقافية والسياسية، وليس في المذهبية الدينية فحسب. إن تداخل استخدام الدين في السياسة مع قضايا الهوية والسلطة يجعل الانتقال إلى الديموقراطية العلمانية يتطلب إعادة تقييم هذه الهياكل. لتحقيق ذلك، يجب بناء المبادئ الديموقراطية الموجودة في الإسلام وتعزيز بيئة سياسية تدعم القيم العالمية مثل الحرية والمساواة والعدالة.
في الختام، العلمانية ليست مجرد نموذج ثابت، بل مجموعة من السياسات والقوانين التي تتكامل مع الديموقراطية لتعزيز الحريات الأساسية مثل حرية التعبير والاعتقاد والتجمع. تساهم هذه السياسات في تحقيق دولة تحمي هذه الحقوق، تفتح المجال للعدالة والمواطنة، وتشجع على الشورى والإجماع. تؤدي العلمانية إلى علمنة الفضاء العام، ما يسمح للأفراد بالتعبير بحرية عن معتقداتهم الدينية ومواقفهم السياسية من دون ضغوط. مع ذلك، لا تستطيع العلمانية وحدها حماية الديموقراطية من التحول إلى استبداد، بل يجب توافر آليات قوية للرقابة والمحاسبة، وثقافة سياسية ومجتمعية تعزز الشفافية وتصون الحقوق الأساسية. في السياق السوري والعربي، تتعلق الرحلة نحو الديموقراطية العلمانية بالبناء على المبادئ المتوافقة مع الحكم الديموقراطي العلماني، مع احترام السياقات الثقافية والدينية الفريدة، وتعزيز بيئة سياسية تدعم القيم العالمية للحرية والمساواة والعدالة.