خاص – حلب
الخبز والملح، يخرجان من المنظومة الغذائية البشرية إلى منظومة القيم البشرية، خصوصاً عندنا نحن السوريين، وعند عموم العرب المشرقيين. فمن تريد تقريبه من نفسك، وإنزاله منزلة الصديق الصدوق، تقول “بيننا خبز وملح”. اليوم، في حلب الشهباء، “الحصول على خبز يؤكل أقسى من رش الملح على الجرح”، كما يقول المواطن خالد مصطفى، راوياً لـ”963+” معاناته الأليمة ليحصل على الخبز في حي السكري حيث يقيم.
يتابع مصطفى: “تبدأ رحلة القبض على مخصصاتي من الرغيف المرّ في السادسة صباحاً، فالطابور طويل، والناس في ضيق، والمزاج ليس صافياً. أنظر إلى هؤلاء الناس أمامي حيناً، وأنظر إلى ساعة يدي أحياناً، قلقاً من أن أصل متأخراً إلى ورشة النجارة حيث أعمل. نتقدم ببطء، وأصل أخيراً قرابة التاسعة إلى تلك النافذة الصغيرة التي يبدو الخباز خلفها ملكاً، بيده مصير هذه الأمة وقوتها، فيرمي لي عدداً من أرغفة الخبز… وتكون الصدمة. فهذا الخبز محروق، أو مرّ الطعم فعلاً، لا يصلح للأكل”.
ربما يكون هذا المخبز سيئاً. يجرّب مصطفى مخبزاً آخر، بلا جدوى. يقول: “المرارة تلاحقنا أينما ذهبنا، وكأنه القدر المكتوب على جبيننا، فحتى خبزنا الذي نطلبه كفاف يومنا لا يصلح قوتاً لنا ولأولادنا”. لكن، هل هذا الأمر جديد؟ يجيب مصطفى: “مخطئ من يعلّق مرارة الخبز في حلب على شماعة الحرب. فهذه مشكلة الخبز منذ عقود. وطول عمري بشوف الأفران زحمة والخبز لا يؤكل”.
غير مقبول!
لكن الناس بحلب في واد، والمؤسسة السوريّة للمخابز في واد آخر. بحسب هذه المؤسسة الحكومية، يتلقى الخبز الحصة الأكبر من الدعم الحكومي. وفي تصريح صحفي، يقول مؤيد الرفاعي، المدير العام للمؤسسة، إن كلفة دعم رغيف الخبز وصلت خلال الربع الأوّل من العام الحالي إلى 3.5 تريليونات ليرة سورية (241 مليون دولار)، وبالتالي يقدر الدعم السنوي للرغيف بنحو 14 تريليون ليرة (965 مليون دولار)، بمعدل 310 أيام عمل فعلية في السنة”.
يضيف: “سعر مبيع ربطة الخبز 400 ليرة سورية (2 سنت) ، في حين تقترب كلفتها الفعلية من 8000 ليرة (نصف دولار)”، مؤكداً أن سوء صناعة الخبز لا يتم في المخابز العامة، “خصوصاً أن المواد الداخلة في الإنتاج متوافرة وذات نوعية جيدة، “وسوء صناعة الخبز خطأ فردي”.
وبحسبه، ربما يكون السبب “عطلاً مفاجئاً، خصوصاً مع دخول الصيف، فقد تتوقف خطوط الإنتاج في أي لحظة، ما يؤدي إلى اختمار العجين بشكل أسرع، لكن هذا الأمر لحظي ويعالج في مدة لا تزيد على ساعتين”، مذكراً بأن الحكومة السورية أعادت خلال العامين الماضيين تأهيل عدد كبير من المخابز العامة وعملت على تحسين نوعية الرغيف. ويختم بالقول: “غير مقبول القول إن خطوط الإنتاج الجديدة تنتج رغيفاً بجودة سيئة”.
من هؤلاء؟
لكن يبدو أن هذا الكلام ليس مقنعاً. تردّ هناء بازار، عضو المكتب التنفيذي لمحافظة حلب، هذه الأزمة في الخبز إلى ضعاف النفوس ممن يستثمرون المخابز في المحافظة، “يسرقون مكونات الخبز، فيؤدي ذلك بطبيعة الحال إلى تردي جودة الرغيف، حتى صار مرادفاً لعلف الحيوانات، لا يصلح للاستهلاك البشري”.
تضيف لـ”963+”: “على السلطات مراقبة المخابز وتسطير المخالفات الشديدة بحق من يتهاون بقوت الناس، ولكن!”. نعم، هذه الـ “لكن” هي السبب في كل مآسينا. تتابع بازار: “نعلم كلنا من يستثمر في الأفران، لذلك لا تنفع العقوبات في ضبط جودة الرغيف”.
من هم؟ يجيب عضو في مجلس محافظة حلب، يرفض ذكر اسمه، أن ملف الخبز في حلب بيد أصحاب النفوذ، “ولا يمكن حلّه إلا إذا فقدوا صفاتهم الحكومية، فهذه مافيا قضت على حلب صناعياً وتجارياً، وهي تقضي الآن على حياة الناس بالرغيف السيء”.
يضيف لـ”963+”: “الآلاف يشترون خبزاً لا يؤكل، ويعلمون حق العلم أنه ليس صالحاً للاستهلاك البشري. والحكومة تتغنى بدعم الخبز، لكنها في الواقع تتغنى بدعم المستثمرين في المخابز، الذين هم فوق القانون”.
لكن.. من هؤلاء؟ ويجيب مصدرٌ في مديرية المخابز – فرع حلب، يرفض ذكر اسمه أيضاً لحساسية المسألة، قائلاً لـ”963+” إن المديرية تمتلك 33 مخبزاً عاماً في حلب، “والباقي يتبع القطاع الخاص، وتم منح المخابز العامة للمستثمرين ’مصانعة‘، وهنا تكمن المشكلة، فالمصانعة وآلية عملها مبنية على إنتاج أكبر عدد ممكن من أرغفة الخبز، من دون اعتماد أي معيار للجودة، لذا نجد الخبز بحال رديئة، في حلب خصوصاً”، مضيفاً أن المستثمر هو المسؤول عن إدارة المخبز الذي يستثمره، وهو مطالب بإنتاج خبز جيد، لكن ذلك لا يحدث بسبب جشع مسكوت عنه ولا يمكن منعه”.
طوابير الشمع الأحمر
في أثناء جلسة أخيرة لمجلس محافظة حلب، قال محمد فياض، عضو المكتب التنفيذي لقطاع التجارة الداخلية بالمحافظة، إن الخبز صار شغل حلب الشاغل، وذلك يتطلب تحركاً جدياً من الجميع. أضاف: “مثلاً، هناك مخبز في حي الأشرفية بشمال حلب، سُطرت بحقه مخالفات عدة في أيار/ مايو الماضي، وحتى اللحظة تبقى جودة خبزه سيئة جداً، فمن المسؤول؟”، علماً أن صاحب هذا المخبز يستثمر في سلسلة طويلة من المخابز في حي الأشرفية بحلب.
وأضاف في الجلسة نفسها: “في أوائل حزيران/ يونيو الجاري، سُطّرت 16 مخالفة بحق مخابز في حلب، لكن هذه المخالفات لم تؤدِّ إلا لازدياد طول الطوابير أمام مخابز أخرى، فمخالفة المخبز وإقفاله بالشمع الأحمر يوجّه طوابير المواطنين إلى مخابز أخرى في المحلة نفسها، وهذا يسبب الازدحام”.
من جانبه، يؤكد أحمد سنكري طرابيشي، مدير التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حلب، لـ”963+”: “نتابع عمل المخابز من الساعة 5 فجراً وحتى نهاية عمل المخابز الخاصة في الساعة 12 ظهراً، وشكلنا لجاناً تضم أعضاء من مديرية المخابز والتجارة الداخلية لتنظيم المخالفات بحق من يسيء إنتاج الخبز أو يتلاعب بوزن ربطة الخبز”، مؤكداً أن في حلب وريفها 216 مخبزاً عاماً وخاصاً، “والمديرية تعمل بأقصى طاقتها لضبط المنتج النهائي، ومع ذلك تبقى حالة الخبز غير مقبولة”.
الشكاوى كثيرة، والخبز لا يتحسن، إنما تستمر رحلة المواطن السوري في حلب، وفي مناطق أخرى، محفوفة بالمآسي، التي وصلت أخيراً إلى لقمة عيش هي حقّ من حقوقه في الحد الأدنى. فإلى متى؟