في تعريفها العام، البطالة هي تعبير لعجز الإنسان عن الحصول على عمل، رغم توافر الإمكانيات، “ما يؤدي إلى فجوة بين الطلب والعرض في سوق العمل، بسبب وجود أيدٍ عاملة كثيرة وفرص عمل قليلة”، بحسب الخبير الاقتصادي عبد الرحمن مركن. هذه حقيقة “نظرية”، لكن قسوة الواقع في الشمال السوري تفوق كل وصف نظري، “وكأن السوري يبحث عن إبرة في كومة قشّ!”.
أن تنظر إلى شبان في مقتبل العمر ينتظرون في ساحة عامة، ينتظرون من يهلّ عليهم طالباً معونة، فيتنافسون ليحظوا بـ “فرصة عمل” قد لا تدوم إلا ساعة أو ساعتين، “لكنها قد تؤمن لي ولأولادي قوت يومنا، ونترك الغد للرزاق الكريم”، كما يقول أحمد شحود لـ”963+”، شاكياً أنه لم يمارس عملاً دائماً منذ أكثر من عام، فيما يقول معتز العبد، النازح من حمص إلى مخيمات الشمال السوري، لـ”963+” إن العمل، إن وجده، فبأجر قليل، لا يتجاوز 50 ليرة تركية (دولار أميركي ونصف).
نسبة مرتفعة
إن كان لنا أن نثبت حالات البطالة في الشمال السوري، فلا صفحات تكفي، “لأننا لا نعرف تماماً عدد العاطلين عن العمل هنا”، كما يقول مضر عمر، مدير العلاقات العامة في وزارة الاقتصاد والموارد “بحكومة الإنقاذ”، لـ”963+”، مضيفاً: “لا إحصائية دقيقة لمعدل البطالة، لكن أجري إحصاء في مناطق الشمال السوري في عام 2020 بيّن أن معدل البطالة حينها كان عند عتبة 45 في المئة”.
لهذه البطالة المتزايدة في الشمال السوري أسباب عدة، يعددها عمر: “الحرب المستمرة، وغياب البنية التحتية التي تستوعب الكثافة السكانية العالية، حيث يقطن اليوم نحو 5 ملايين نسمة في بقعة جغرافية ضيقة، وتقلص المساحات الزراعية”.
يضيف: “لا شك في أن الحرب كان لها التأثير الكبير، إذ هجّرت عدداً كبيراً من الصناعيين والتجار الى الخارج، كما هجّرت العقول السورية، وهذا أنتج تناقصاً في فرص العمل المعروضة، ورفع بالتالي من مستويات البطالة”.
ويؤيده في ذلك عبدالرحمن، مضيفاً سببين لاستشراء البطالة: “الفجوة بين الاستثمار والإدخار، وافتقار القوة العاملة لمهارات التدريب في ظل التطور التقني”.
راحت الزراعة
درويش الأحمد يعمل عملين: سائق دراجة نارية للتوصيل وعامل تحميل، ولا يجد عملاً، ولا دخلاً يقيه الفقر. يقول لـ”963+”: “لا يمكننا أن نتكلم عن التطور التقني في شمال سوريا، حيث الحرب ما زالت مستمرة، والحصار خانق، والناس لا تجد لقمة العيش بسهولة، ولا استقرار”. ويوافقه ماهر عباس الذي يعمل في تزييت أبواب المحلات ليحصل قوته اليومي، وهو أب لأربع أطفال. يقول لـ”963+”: “هذه مجرد نظريات، الأساس هو أننا نعيش في منطقة مخنوقة، ومحروقة، وكانت أغلبيتنا تعمل في الزراعة”.
يضع عباس ملحاً على الجرح. يقول عمر: “حقاً يقول هذا الرجل. جميع القطاعات تضررت جراء الحرب، لكن العاملين في القطاع الزراعي كان لهم النصيب الأكبر من هذا الضرر، بسبب تقلص المساحات المزروعة، وهذا سبّب فجوة كبيرة، فقد كانت المشاريع الزراعية تستقطب الآلاف من العمال”.
يضيف: “ثمة ما يدعو إلى بعض التفاؤل. منطقة شمال غرب سوريا ذات صبغة زراعية بشكل عام، ويشهد القطاع الزراعي عودة الانتعاش الملحوظ، بعد إعادة تفعيل محطة عين الزرقا، ونتوقع أن يستقطب ذلك عدداً كبيراً من العمال إلى القطاع الزراعي قريباً”.
في أمل!
بعيداً عن الزراعة، وبانتظار ازدهارها ثانية، ثمة مهن وصناعات استقطبت طالبي العمل في المنطقة. يقول عمر: “نشطت أعمال البناء بشكل ملحوظ، بسبب إقبال البعض على ترميم منازلهم، فيما يعمل بعض الشبان في مناشر الحجر”.
حتى لو توافرت فرص العمل، إلا أن الخريج الحقوقي أحمد عبد الرحيم يثير مسألة شائكة في هذا الإطار: “الكثير من الفرص المهنية التي قد نجدها تتطلب مؤهلات علمية معينة. وعند توافرها، يعجز أحدنا عن استصدار المستندات الأكاديمية اللازمة من الجامعات الموجودة في مناطق الحكومة السورية. وهكذا، تتوفر فرصة العمل، ولا تتوفر في الآن نفسه، فنعمل في مهن بعيدة عن مؤهلاتنا الجامعية، وهذا برأيي لا يعالج مشكلة البطالة، إنما يفاقمها”، مضيفاً: “في أمل… المهم أننا نعمل عملاً شريفاً، وهذا يكفينا”.
هذه ملاحظة مهمة، كما يقول عمر. فالبطالة تدفع بعض الأشخاص إلى القيام بأعمال غير شرعية لتأمين متطلباتهم. يضيف: “معلوم أن البطالة آفة اجتماعية واقتصادية خطيرة تهدد اقتصادات الدول الكبرى التي تملك إمكانيات ضخمة، وعلى الجميع التنبّه إلى هذا الأمر”.
مشاريع صغيرة
إلى ذلك، توفر المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية بشكل عام فرص عمل لشريحة من الناس، “كالعاملين فيها، أو في مشاريع النقد مقابل العمل، وفي مشاريع صغيرة أخرى مصممة لدفع العائلات نحو العمل”، بحسب عمر.
ويرى عبد الرحمن أن ثمة حلولاً لهذه المسألة، “لكنها غير ناجحة تماماً، فزيادة مهارات العاملين من خلال المدارس المهنية يمنح المجتمع العامل قدرات جيدة، فعسى أن تأتي الاستثمارات التي يتكلمون عنها في المنطقة بفرص للاستفادة من هذه القدرات، ولإفادة الناس بخفض مستوى بطالتهم”.
فهل سينتظر الشمال السوري هذه الحلول طويلاً؟