ليس “حزب الله” قوة عادية في لبنان والشرق الأوسط، بل يمكن وضعه في صف المنظمات غير الرسمية “الأقوى” وهذه حقيقة لا لُبس فيها، فالحزب يعتبر منظمة من الفئة “ألف” الأخطر، بحسب تصنيف مجلس الأمن القومي الأميركي.
والملفت أن حزباً بقوته قادر، في الوقت عينه، على مقارعة إسرائيل، وعلى خوض معارك في لبنان وسوريا، وعلى إرسال خبرائه إلى العراق واليمن، كما وتنظيم شبكة معقدة في معظم دول العالم، ولكنه لم يسيطر على لبنان بشكل كامل بعد.
لا يتعلق الأمر بعدم الجهوزية أو بغياب القدرة العسكرية للحزب التي لا تضاهيها قوة أي طرف لبناني آخر أو حتى مجموع أطرافه، إنما بما يمثله لبنان ودولته الحالية من وظيفة تخدم الحزب. فمن الواضح أن الحزب يهتم أن يبقى الحال في لبنان كما هو الآن؛ جيشه ضعيف، أحزابه وقواه مفككة وبائسة، واستقراره قائم حتى وإن كان هشّاً للغاية.
وواقع لبنان الحالي يساهم في تمويل خزينة “حزب الله” بشكل كبير والتي قُدرت ميزانيته وفقاً لتقرير سابق لمجلة ناشيونال إنترست الأميركية بـ 700 مليون دولار أميركي. فمن ناحية، يستفيد الحزب من ضعف الدولة ومؤسساتها ليمارس أعمال التهريب وتبييض الأموال وكل الموبقات الأخرى التي تدل معظم التحقيقات الرسمية وغير الرسمية على وقوف الحزب وراءها. ومن ناحية أخرى، يستفيد “الحزب” من الناتج الاقتصادي والمالي لبقية المجتمعات اللبنانية عبر تطبيق مفهوم الاقتصاد المركنتيلي، وربما دون أن يدري حتى أنه يفعل ذلك.
انتشر هذا المفهوم الاقتصادي في أوروبا بين القرن السادس عشر ومنتصف الثامن عشر، وهو يدعو إلى الاستفادة من عائدات التجارة والاقتصاد إلى أقصى حد من دون الاكتراث لأي أمر آخر، إضافة إلى اغتنام الفرصة لجمع المال من عائدات الإنتاج والتجارة. وهكذا بالضبط، يستفيد “حزب الله” من سطوته على مطار بيروت ومرفأ العاصمة والحدود السورية – اللبنانية المفتوحة، فيمرر، عبر وسطائه، ما يشتهيه من بضائع من أجل التجارة وتحقيق الأرباح، ومن دون المرور على الجمارك اللبنانية.
قد يظن من يتصفح مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان أن البلاد وشعبها يعيشان حالة انفصام تام في الشخصية، حيث يقاتل “حزب الله” إسرائيل في الجنوب، فيما بقية اللبنانيين يمارسون طقوس الاحتفالات، والفرح. والحال أن الحزب يهمه استمرار الحال على ما هو عليه في بقية المناطق غير المسكونة من بيئته المذهبية أو تلك التي لا تخضع لسطوته المباشرة، ذلك لأن قسماً مهماً من إنتاج هذه المناطق يعود إليه.
هذا الأمر يتم عبر وسيط اسمه الدولة اللبنانية، الموكلة جمع الضرائب من إنتاج وأرباح وعرق وتعب اللبنانيين. نظرة سريعة إلى أرقام مؤسسات الدراسات اللبنانية، تدل بوضوح إلى جباية تقدر بنسبة 90 إلى 95 في المئة من الأقضية التي لا يسيطر عليها “حزب الله” مثل كسروان، الشوف، بشري، الكورة، فيما لا تتعدى الـ25 في المئة في المناطق التي يسيطر عليها الحزب، مثل بعلبك والهرمل شرق لبنان، والنبطية وبنت جبيل في جنوبه.
وعليه، تجبي الدولة الضرائب بشكل أساسي من المناطق الخارجة عن سيطرة الحزب المباشرة، ثم تقوم بتوزيعها على شكل مشاريع تنمية وخدمات، تماماً كما تفعل كل دول العالم. إلا أن ما يأتي لتنمية المناطق التي يسيطر عليها “حزب الله” أكبر بأضعاف من بقية المناطق الأخرى، فيما هذه الأخيرة تبقى أكثر نماءً من مناطق سيطرة الحزب. أما سبب ذلك، فيعود إلى شبكات الفساد التي يقودها ويرعاها الحزب في مناطقه، حيث ينتهي أمر أموال الدولة في يد الحزب ومؤسساته، فتحرم الناس من التنمية وما يمكن أن يفيدهم في حياتهم.
ضمن هذه المعادلة، تتزايد أرباح “حزب الله” بقدر ما يتزايد إنتاج وازدهار بقية المناطق غير الخاضعة له، وبقدر دوام سيطرته على الدولة. حتى انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية ينهي حالة الفراغ المستمر منذ حوالي السنتين أمر لا يكترث له الحزب، تماماً كما إجراء انتخابات بلدية أو أي إصلاح اقتصادي في لبنان.
كذلك، لا يبدي “حزب الله” أي حماس يُذكر لإخراج اللاجئين السوريين من لبنان، أقله إن قورنت أعماله وخطابات مسؤوليه ببقية الأحزاب اللبنانية الأخرى. مركنتيلية الحزب تتجسد في موضوع اللاجئين في البلاد أيضاً، ذلك لأن وجودهم يدر عليه قسماً من أموال الصناديق الأوروبية والمنظمات غير الحكومية، حيث يحصل الحزب على أرباح من الأموال المقدمة للبنان كدولة مضيفة، وهي أموال مؤطره ضمن مشاريع تنموية تنتهي عادة في عدم تنمية شيء من مناطق سيطرة “حزب الله”، إنما تنمية قدراته العسكرية.
في منظار الحزب وأديباته، تبقى قيمة المناطق التي يسيطر عليها بأنها “مجتمع مقاوم”، ترفده بالمقاتلين لدوام قوة آلته العسكرية. أما المناطق المتبقية من لبنان، فتبقى، في منظار “حزب الله”، خزينة تدر عليه الأرباح ليستمر في بناء قدراته العسكرية، سطوته على مجتمعه، ووجوده في سوريا.
لذلك، لا يكترث الحزب جدّياً للسيطرة على لبنان بشكل حقيقي، أقله إلى الآن. هو يعفي نفسه من تحمّل مسؤولية حكم بقية لبنان تاركاً بعض فتات السيطرة لأحزاب هامشية أخرى، خاصة وأن الأرباح التي يجنيها الحزب من تلك المناطق تخدم في تعزيز ديمومته، وتبقى أهم من أي مغامرة غير محسوبة قد تجعل من سطوته على لبنان عرضة للخطر.