إن كان مقدراً لسوريا أن تستقر سياسياً، فتبدأ مسيرة إعادة إحياء الحياة فيها على مختلف الصعد، سيقف حينها المشرع السوري على مفترق طرق اقتصادية، لا بد من أن يكون الخيار بينها صعباً. فالسؤال المطروح اليوم أمام النخب الاقتصادية هو النظام الملائم فعلياً لبلادهم، بعد نحو خمسة عقود من شبه اشتراكية تطغى عليها الزبائنية والفوضى ورأسمالية المحاسيب.
يطرح بعض من هذه النخب، في سوريا كما في خارجها، اعتماد اقتصاد السوق الحرة. إلا أن ثمة تساؤلات عميقة حول إمكانات هذا النموذج الاقتصادي وتحدياته في ظل الظروف الراهنة، وملاءمته سوريا والسوريين وطريقة تفكيرهم، وهو الذي يعتمد حرية العرض والطلب في تحديد أسعار السلع والخدمات، ويرتكز على حرية التبادل والملكية الخاصة والمنافسة بين الشركات.
شهدت سوريا تحولاً سياسياً كبيراً مع سقوط الأسد، وكان الاقتصاد السوري قبل ذلك على حافة الانهيار بسبب الدمار الناتج عن الحرب والعقوبات. بعد هذا التغيير السياسي الكبير، اتخذت الحكومة الجديدة إجراءات اقتصادية تميل نحو تحرير السوق، منها تحرير سعر الصرف والسماح بالدولار الأميركي والليرة التركية كعملتين للتداول إلى جانب الليرة السورية، بعدما كان حمل “الدولار” تهمة تؤدي بصاحبها إلى السجن.
حسّنت هذه الإجراءات سعر صرف الليرة السورية إزاء الدولار بين 20 و30%، فتراجعت أسعار سلع أساسية بين 10 و25% بحسب بيانات الحكومة السورية المؤقتة، خصوصاً المواد الغذائية الأساسية كالزيت والسكر والرز والبطاطا. كما رفعت الحكومة الدعم عن مختلف السلع عدا الخبز، وخفضت الرسوم الجمركية بنسبة 50 إلى 60% مقارنة بالفترة السابقة.
إن اتخذنا جانب التفاؤل، يمكن نموذج اقتصاد السوق الحرة أن يعبّد الطريق نحو انفتاح واسع النطاق على الاقتصاد العالمي، وهذا بذاته عامل جذب للاستثمارات الأجنبية، وعامل تقوية لقدرة سوريا على الانضمام إلى الأسواق الدولية… ولكن!
نسمع وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني يقول خلال مشاركته في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس أن “سوريا ستتبع نماذج التنمية الاقتصادية المعتمدة في سنغافورة والسعودية”. كما نسمع محمد الحلاق، عضو مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق، يصف التوجه نحو السوق الاقتصادية الحرة بأنه “نقلة نوعية يمكن أن تعزز قيمة المنتج المحلي الذي أثبت جودته وكفاءته أمام المنتجات المستوردة”، وفقاً لما نقلت عنه “سانا”. ويقول الصناعي السوري عاطف طيفور إن السوق الحرة هي “الهدف الوطني المستقبلي”، متوقعاً أن يؤدي تحرير السوق إلى زيادة المنافسة وتحسين جودة المنتجات وتوفير خيارات أكثر للمستهلكين.
لكن، من جانب آخر، هذا إفراط خطر في التفاؤل. فقول الشيباني يحتمل التشكيك، لأن سوريا لا تملك ما في السعودية وسنغافورة من موارد مكّنتهما من أن يمشيا بخطوات واثقة في نموذج اقتصاد السوق الحرة. والبلاد تواجه تحديات كبيرة في طريق تطبيق هذا النموذج الاقتصادي، لأن الحركة في السوق السورية ما تزال ضعيفة إلى راكدة، بسبب عدم عودة المؤسسات والشركات والمرافق الحكومية إلى عملها بالشكل المطلوب، وضعف الاستقرار الأمني في الكثير من المناطق، والتخريب والسرقات التي تعرضت لها إدارات حكومية وشركات إنتاجية كثيرة تابعة للقطاع العام، وارتفاع تكاليف النقل، وعدم صرف رواتب وأجور عشرات آلاف العاملين في قطاعات الدولة والجيش السابق.
قطاعياً، ثمة توازنات واختلافات. فالقطاع الغذائي السوري قادر على الاستمرار والمنافسة بقوة، نظراً إلى جودة عالية عرف بها، وكذلك قطاع الصناعات الدوائية لموثوقيتها، لكن الصناعات الكهربائية الإلكترونية والمنزلية ستواجه صعوبات جمة في ظل توجه المواطنين نحو السلع الخارجية، وسيواجه قطاع الصناعات النسيجية مشكلات في التسويق والمبيعات، نتيجة إغراق الأسواق بالسلع المستوردة.
لا ينجح اقتصاد السوق الحرة في سوريا إلا بعد رفع منسوب الإنتاج في القطاعات الاقتصادية كلها، وتحديداً في القطاع الصناعي بتمكينه ودعمه وحمايته بوضع رسوم حمائية على البضاعة المستوردة التي لها مثيل محلي وتكفي السوق، وتوفير الطاقة بسعر مخفض، وتأمين القروض وتيسيرها. وهكذا، يمكن تأمين ما يكفي من إيرادات رسمية تكفي للإنفاق الاستثماري، الذي يؤدي أخيراً إلى تحقيق الرفاهية المجتمعية. وهذا لا يتم من دون تأمين بيئة أعمال جذابة للمستثمرين، والخلاص من فساد نظام الأسد وبيروقراطية ما سميت اشتراكية زوراً، مع الأمل ألا يقتصر الأمر على رفع الشعارات، فيذهب فساد نظام البعث العربي الاشتراكي، ليحل محله فساد نظام هيئة تحرير الشام، وهو أشد مضاضةً.
في اقتصاد السوق الحرة فرص واعدة للاقتصاد السوري، من حيث جذب الاستثمارات وتعزيز التنافسية وتحسين جودة المنتجات المحلية، لكن نجاحه مرهون بتوفير الاستقرارين الأمني والسياسي، وتأهيل البنية التحتية، وسن تشريعات تحمي المنتج المحلي، وتشجيع الاستثمار. ربما يكون الأفضل تطبيق اقتصاد السوق الحرة تدريجاً، مع توفير شبكات أمان اجتماعية للفئات الأشد عوزاً، وضمان توزيع عادل للموارد، وتعزيز الشفافية، ومكافحة الفساد.
يمكن نموذج اقتصاد السوق الحرة أن يعبّد الطريق نحو انفتاح واسع النطاق على الاقتصاد العالمي، وهذا بذاته عامل جذب للاستثمارات الأجنبية، وعامل تقوية لقدرة سوريا على الانضمام إلى الأسواق الدولية… ولكن!