لا تزال الأوضاع في سوريا تشهد تفاعلات إقليمية ودولية تعكس تنافساً متزايداً بين عدة أطراف خارجية، حيث تسعى كل منها إلى تعزيز نفوذها وتحقيق مصالحها الجيوسياسية والاستراتيجية. ومنذ سقوط نظام بشار الأسد وفراره خارج البلاد، تحاول القوى التقليدية، مثل إيران وروسيا، إعادة تموضعها في الساحة السورية، بينما تبرز تركيا كحليف أساسي للسلطة الجديدة في دمشق بقيادة أحمد الشرع.
التوتر التركي-الإيراني ومؤشرات التصعيد
رغم الضربات التي تعرضت لها إيران بعد فقدانها أحد أبرز حلفائها في المنطقة، إلا أن أنقرة ما زالت تعبر عن قلقها من استمرار الدور الإيراني في سوريا. وقد تصاعد هذا التوتر على خلفية الأحداث الأخيرة في الساحل السوري، التي شهدت انتهاكات موثقة ضد المدنيين العلويين، حيث تبنت تركيا سردية السلطة الجديدة في دمشق بشأن ضلوع بقايا النظام السابق وطهران في محاولة انقلاب عسكري.
وفي لقاء مع قناة “الجزيرة” القطرية، صرح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان قائلاً: “سياسة طهران الخارجية، وخاصة ما يتعلق بميليشياتها المسلحة، تتسبب في مخاطر كبيرة رغم بعض المكاسب التي حققتها، إلا أنها تكبدت تكلفة أكبر مقابل الحفاظ عليها”.
كما أشار إلى احتمالية دعم إيران لقوات سوريا الديموقراطية (قسد)، محذراً: “يجب ألا ترمي الحجارة إذا كنت تعيش في بيت من زجاج. إذا كنت تسعى إلى إثارة بلد ما من خلال دعم مجموعة معينة هناك، فقد تواجه موقفاً حيث يمكن للبلد المذكور أن يزعجك من خلال دعم مجموعة أخرى في بلدك”.
على إثر هذه التصريحات، استدعت وزارتا الخارجية في كل من أنقرة وطهران السفير التركي في الأولى والقائم بالأعمال الإيراني في الثانية، للإعراب عن الاستياء المتبادل، في خطوة تعكس حدة التوتر بين الجانبين.
التنافس الإقليمي وخريطة النفوذ الجديدة
تشير المعطيات إلى أن التنافس التركي-الإيراني في سوريا يمتد إلى العراق وأذربيجان، حيث يؤكد المحلل السياسي المختص بالشأن الإيراني، عمار تاسائي، في حديثه لموقع “963+”، أن “الحشد الشعبي يمثل ورقة رابحة لإيران، بينما تحتاج تركيا إلى هذه الورقة في مواجهة حزب العمال الكردستاني، وربما أيضاً في التعامل مع الأكراد في سوريا”.
ويضيف: “الحشد الشعبي يشكل قوة عسكرية لا يُستهان بها في العراق، كما أن العراق يعد سوقاً كبيرة للمنتجات التركية، مما يدفع أنقرة إلى الحفاظ على علاقتها معه رغم النفوذ الإيراني هناك”.
وعلى الرغم من خسارة إيران لحليفها الأكبر في سوريا، فإنها تحاول تقليل خسائرها، بحسب تاسائي “عبر دعم بعض القوى المحلية لإحداث اضطرابات، وكأداة ضغط على تركيا لقبول نوع من الشراكة معها في سوريا. في المقابل، تسعى تركيا إلى تثبيت أركان الحكم لحليفها الجديد في دمشق، وقد نجحت في تحييد قوات الحشد الشعبي عن المشهد السوري حتى الآن”.
تنافس أم تعاون؟
يعتقد تاسائي أن “التنافس بين أنقرة وطهران لن يتطور إلى مواجهة عسكرية مباشرة، لأن كلا الطرفين يمتلكان قوة عسكرية كبيرة، فضلاً عن الجذور التاريخية للعلاقة بينهما”. وأضاف: “إيران وتركيا تميلان إلى التعاون والمنافسة في آن واحد، بدلاً من الانزلاق نحو صراع عسكري مفتوح”، مشيراً إلى أن المشهد في سوريا والعراق سيظل على ما هو عليه، حيث يسعى كل طرف إلى تعزيز نفوذه دون تجاوز الخطوط الحمراء.
من جانبه، أكد بشار علي الحاج علي، الديبلوماسي السوري، في حديثه لـ”963+”، أن “التنافس التركي-الإيراني في سوريا بعد سقوط الأسد بات يأخذ أبعاداً مختلفة، حيث أصبحت سوريا تحت إدارة السلطة الجديدة التي تعمل على توحيد البلاد وبناء مؤسسات الدولة وفق رؤية وطنية جديدة”.
وأضاف: “إيران تحاول إعادة اختراق المشهد السوري عبر دعم بقايا النظام السابق وبعض الميليشيات الموالية لها، إلا أنها لم تعد تمتلك نفوذاً رسمياً كما كان سابقاً”.
وأشار حاج علي على أن تركيا، قد لعبت دوراً محورياً في دعم المرحلة الانتقالية بعد سقوط النظام، وساهمت في إعادة هيكلة المعارضة وإدارة مناطق الشمال، وفقاً لمصالحها الاستراتيجية. ويؤكد أن “الدعم التركي للإدارة الجديدة يأتي في إطار التعاون الأمني والسياسي، لكنه لا يعني تحكمها في القرار السوري، حيث تسعى السلطة الجديدة لتثبيت سيادتها الكاملة على البلاد”.
آفاق الاستقرار في سوريا
رغم خروج إيران من المشهد العلني، فإن محاولاتها لاستعادة نفوذها تخلق حالة من عدم الاستقرار في بعض المناطق، مستغلة فلول النظام السوري السابق. في المقابل، تعمل تركيا على تحقيق مصالحها القومية، مما يجعل التنافس الإقليمي عاملاً معقداً في مسار تثبيت الاستقرار في سوريا.
ويؤكد الحاج علي أن “الاستقرار في سوريا مرهون بقدرة السلطة الجديدة على تعزيز سيادتها وبناء دولة وطنية قوية تستوعب جميع السوريين”، مشدداً على أهمية تبني استراتيجية شاملة تتضمن: “ضبط الأمن وإنهاء محاولات إيران لاختراق المشهد عبر بقايا النظام والفصائل. وتنظيم العلاقة مع تركيا لضمان عدم تحول الدعم إلى نفوذ سياسي يمس القرار الوطني السوري. وإيجاد حل لقضية الشمال الشرقي ودمج القوى المسيطرة هناك ضمن الدولة الجديدة. والتحضير لمؤتمر وطني شامل يؤسس لدستور جديد يكرس دولة المواطنة المتساوية”.
ويختتم الحاج علي حديثه بالقول: “يجب أن تكون لدى السوريين رسالة واضحة: سوريا دولة ذات سيادة، ولن تكون ساحة للتجاذبات الإقليمية بعد اليوم. لقد دفعت سوريا ثمناً باهظاً بسبب التدخلات الخارجية، واليوم أمام السوريين فرصة تاريخية لإعادة بناء دولتهم على أسس العدالة والمواطنة، بعيداً عن أي وصاية خارجية. النجاح في هذه المرحلة يتطلب وحدة الصف الوطني وإغلاق الأبواب أمام أي جهة تحاول استغلال الانقسامات الداخلية لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء”.