ورثت سعدى العلي، إحدى نساء ريف دير الزور الشرقي، صناعة “الزل” عن والديها، وستورثها لأبنائها من بعدها، “كي تبقى هذه الحرفة، فلا تنقرض كما انقرضت حرف ريفية أخرى، غادرها أربابها لسبب من الأسباب، وما ورثها عنهم أولادهم”.
فما الزل؟.. قصب الزل من جنس النبات العشبي المعمر، ينتمي إلى الفصيلة النجيلية، مستخدم في صنع السلال والصناديق والأطباق وبعض الأدوات الموسيقية كالناي ومناظر زينة، وأسقف الحظائر والغرف الطينية قبل ظهور الإسمنت واستخدامه في أسقف المنازل، إضافة إلى المعروشات المنزلية. ويعتبر نسج هذا القصب من أهم المعالم التراثية في شمال شرقي سوريا.
نظرياً ثم عملياً
تروي العلي لـ “963+”: “أعمل في هذه المهنة الحرفية منذ نحو سبعة أعوام. تعلمتها عن والدتي، إذ كنت أراقبها طويلاً وهي تحوك الزل، وأتقنتها نظرياً في المرحلة الأولى، ثم أقبلت عليها، وصرت ’معلّمة‘ فيها”.
وتضيف: “أحب هذه السلال، فهي مصدر دخل رئيسي لي ولعائلتي، كما هي مصدر دخل للعديد من النساء هنا، في ريف دير الزور الشرقي، يشترونها للفاكهة والخضار، وكذلك الخيام والمظلات”.
رقية الأسعد في ريف دير الزور الشرقي أيضاً، اكتسبت مهارة حياكة الزل منذ عامين. “تعلمتها من والدتي التي ورثتها من جدتي”، فيما تقوم بتعليم معظم الفتيات في الحي هذه المهارة التقليدية لضمان استمراريتها في المستقبل.
تقول لـ”963+”: “الطلب كبير على مصنوعات الزل اليوم، وهذا يدرّ علي دخلاً جيداً يكفي لتلبية احتياجات عائلتي، وساهم في تحسين أوضاعنا”.
هذه صعوباتنا!
ينمو قصب الزل قرب المجاري المائية وفي الأراضي الرطبة، ويتميز بقدرته على العزل الحراري، ومتانته ومقاومته للعوامل الجوية والأمراض التي تصيب النباتات.
تواجه العلي صعوبات في جلب الزل من نهر الفرات، “بسبب قلة سبل المواصلات وغلاء التكاليف، وهذا يتطلب صبرًا وجهدًا كبيرين”. وبما أن الحاجة إلى قصب الزل عادت في هذه الظروف الصعبة، صار نقلها من الأودية مهنة تمارسها بعض الأسر فتساهم في توفير فرص عمل مؤقتة، وتساعد في تحسين الوضع المعيشي، كما تقول العلي.
والزل ثلاثة أنواع، بحسب المهندس الزراعي محمد الجاسم. يقول لـ”963+”: “لدينا قصب الزل العادي الذي يستخدم في صناعة السلال والأدوات الحرفية اليدوية، وقصب الزل الطويل الذي يستخدم في صناعة الأثاث والديكورات الداخلية، وقصب الزل الرفيع الذي يستخدم في صناعة السجاد والأغطية”.
وتضيف العلي: “يُجفف الزل قبل حياكته، وأنا أحيك أربعة إلى خمسة أمتار في اليوم الواحد، وربما أقضي يومين طويلين لأنهي سلةً، أو مظلة”.
الغلة في السلة!
لكن، هل ثمة ما يفيكِ تعبكِ؟ تردّ الأسعد: “لا شيء في هذه الدنيا يأتي من دون تعب. المهم أن نجد ما يقينا الجوع. ولو كان الوضع العام أفضل، وبعنا سلتين أو ثلاث يومياً، لعشنا مرتاحين جداً”. فسعر السلة يتراوح بين 15,000 ليرة سورية (دولار واحد) و100 ألف ليرة سورية تقريباً (نحو 6.6 دولارات)، بحسب حجم السلة ودقة صناعتها.
تقول العلي: “إن صناعتها لا تكلفنا كثيراً، بين 5,000 ليرة سورية (33 سنتاً) و10,000 ليرة سورية (66 سنتاً) لشراء الخيوط إن كان القصب موجوداً، وإن لم نحصل عليه من دون ثمن، علينا شراؤه ونقله، وهذا يرتب علينا تكاليف إضافية ربما تصل إلى 50 ألف ليرة سورية (3.3 دولارات)، فسعر متر القصب يبلغ نحو 10,000 ليرة، ويأتي القصب عادة بأطوال تتراوح بين ثلاثة وخمسة أمتار تقريباً”.
وتضيف الأسعد: “شراء الخيوط من محلات خاصة بالحجين وشراء الدرجية أيضاً يكلفنا نحو 50 ألف ليرة أيضاً”. فهذه التكاليف كلها كافية لإنتاج بضاعة يقارب ثمنها مليون ليرة سورية (66.7 دولاراً). وتختم حسبتها بالقول: “إننا لا نعرف كيف نثمن تعبنا اليومي، فشغفنا في العمل ينسينا التعب”.
تدريب وتسويق
على الرغم من تحول هذه الصنعة إلى مهنة، فإن العلي تصرّ على تسميتها “هواية”، حتى أنها تصفها بكلمة “شغف”. تقول: “إنها موروث تراثي، ولن تستمر طويلاً إن كانت مجرد مهنة للدخل المادي، ففيها من الصعوبات ما يجعل المرء يملّها ويتركها، إن لم يكن شغفه يقوده، فيتعامل مع الزل معاملة الهواية والمتعة، كي يشعر بالفخر عندما ينتهي من حياكة سلة جميلة، أو صندوق، أو مظلة يرى الناس تحتها ينعمون بالظل”. والجيد أنّ هذه الحرفة توفّر فرصة عمل لنساء دير الزور.
وتوافقها الأسعد في أن العمل بالزل مسألة “تجعلني أشعر بأنني أصنع شيئاً مفيداً يدوم”. فبهذا القصب، يمكن تحسين البنية التحتية لجمع الماء وتخزينه من خلال حل مستدام، ولو كان بدائياً وبسيطاً، “لذا يجب دعم هذه الحرفة، بتوفير التدريب المهني وتحسين ظروف العمل، فلا يكفي أن أعلّم الفتيات أصول هذه الحرفة، بل يجب أن يخضعن لدورات تدريبية وورش عمل، تدفعهن إلى ابتكار مصنوعات جديدة بهذا القصب القديم، واكتساب المهارات المتقدمة، من دون نسيان أصل الحرفة وسلتها بالتراث”.
ولا تنسى العلي طلب الدعم لتسويق المنتجات الحرفية، بتسليط الضوء عليها بوصفها جزءًا من التراث السوري الذي لا يموت. وبحسب الأسعد، حرام فعلاً أن تموت هذه الحرفة، “فالحرف التراثية الشعبية تؤدي دوراً بارزاً في تعزيز الهوية المحلية، وتعزيز الاقتصاد المحلي”، فترى الحرف اليدوية قطاعًا ينبغي رعايته لتعزيز السياحة المحلية، وتعزيز التواصل بين الأجيال.
في البيئة أيضاً
لكن، للزل استخدامات أخرى “بيئية مهمة” كما يقول الجاسم، مضيفاً: “يزرع قصب الزل في مجاري السدود، لأنها تنقي المياه من الملوثات والشوائب، وقد استخدمت مثلاً في سدود درعا قبل عام 2011”.
ويلفت الجاسم إلى أن تنقية المياه في الأحواض الترسيبية وزراعة قصب الزل “كانت ضمن المشروعات الاقتصادية المهمة في مناطق سورية مختلفة”، مضيفاً: “ساهمت هذه التجارب فعلياً في توفير آلاف الأمتار المكعبة من المياه العادمة بعد تنقيتها، كي تستخدم بأمان في الري، وهذا ساعد في مضاعفة مردود الأراضي الزراعية، خصوصاً تلك القريبة من السدود والأنهار”.