تمتد رحلة اللجوء السورية إلى المجتمعات الأوروبية بعد 2011 عقداً وأكثر. فحين غادر السوري بلده مجبراً، لم يحمل معه إلا صراعاته النفسية وموروثه الاجتماعي ولغته التي يعبر بها عن مآسيه، وهويته السورية الممهورة بختم السلطة الأبوية، وإرثه الذكوري.
تعيش الفتاة السورية التي أسعفها القدر فوصلت إلى أوروبا ثورة في تعبيرها عن نفسها وهويتها. هذه الثورة ناتجة من صراع طرفاه مناصرو قيم الأسرة الشرقية المتمسكة بلائحة الممنوعات والمحرمات وشعار “حماية شرف العائلة”، ومتمردات على المألوف الأسري راغبات في تبني نظم المجتمع الأوروبي لأنه يدعم حقوقهن.
سلام.. بلا سلام
تصف سلام (22 عاماً) معاناتها ببساطة شديدة: “لا أريد ان أعيش حياتي مثل أمي ولا أريد أن أتزوج رجلاً يشبه أبي”. قبل سبعة أعوام، وصلت سلام من سوريا إلى النمسا برفقة والديها، كانت قد تجاوزت الخامسة عشر من عمرها. لم يشملها قانون التعليم الإلزامي فما تسجلت في المدرسة، ومنعها والداها من حضور دورات اللغة الألمانية أو الخروج بمفردهما إلى أي مكان، فكان أخوها حارسها الدائم. ما أحبت اعتمار الحجاب، لكن والدها أُجبرها. ولم تكن راضية عن خطبتها لأحد أقرباءها، ولا عن الرقابة اللصيقة التي يمارسها أبوها عليها، ولا عن التعنيف التي تتعرض وأمها له، ضرباً وتوبيخاً وقمعاً.
تقول سلام لـ”963+”: “أنا مجبرة على التظاهر بالرضوخ لأبي كي لا يضربني أو يمنعني من الخروج. راودتني فكرة الهرب من المنزل”. قررت سلام سريعاً ونفذت. تروي: “أمضيت ستة أشهر في إحدى الدور السرية المخصصة لحماية الفتيات، والتحقت بدورات لغة”. بعد التفاوض مع أبيها، وقع تعهداً بعدم التعرض لها، ووافق على انفصالها عن خطيبها. تضيف: “عدت إلى بيته، فلم أجد السلام المفقود، إذ عاد أبي إلى قمعي بشدة، فهربت ثانية مع صديقي التركي”. تزوجا وأنجبا طفلاً، ولم تكن سلام قد بلغت سن الرشد بعد.
عنف قائم على النوع الاجتماعي
الانتصار بالقانون لم يساعد سلام. تقول فرحة خليل، الناشطة النسوية الكردية والمرشدة الاجتماعية في مبادرة “جيان لمناهضة العنف ضد النساء” المرخصة في مدينة هانوفر الألمانية المناهضة زواج القاصرات وقتل النساء باسم الشرف، إن القوانين في دول اللجوء تقلق الوالدين في الأسر السورية، “لأن مخالفتها تؤدي إلى تدخل الجهات المختصة، فضرب فتاة أو حجز حريتها يعرض والدها للمسائلة القانونية”.
تضيف خليل لـ”963+”: “لذلك، تلجأ أسر عديدة إلى تزويج بناتها صغيرات لحماية العرض، لأن ممارسة الجنس يبقى المعيار الأساسي لتقييم الشرف، بكل أسف، وفقدان العذرية قد يودي بحياة الفتاة، ولهذا تهرب الفتيات أحياناً من البيت، ويكون هربهن إعلان تمرد يأتي ردة فعل طبيعية لدرء خطر التهديد الذكوري”.
وتذكر خليل أن العنف على أساس النوع الاجتماعي لا يستهدف السوريات وحدهن في ألمانيا، علماً أن السلطات الألمانية لا تقوم بما يكفي لمنع العنف ضد المرأة، وفقاً لتقرير صادر عن “مجلس أوروبا”. فبين عامي 2017 و2022، ارتفع عدد المشتبه بهم المسجلين في جرائم يتم خلالها تطبيق قانون الحماية من العنف بنسبة 11 في المئة، ليصل إلى 6587 مشتبهاً به في عام 2022، وفق للتقرير.
جيان ووشمها
قدمت جيان (21 عاماً) إلى النمسا مع عائلتها قبل سبعة أعوام. فرض عليها أبوها ما تبقى له من سلطة، من منطلق أنه “لا يمكنني بعد خمسين عاماً التخلي عن قيمي الاجتماعية أو محاولة تغييرها، فعقلي لا يستوعب ذلك”، كما تنقل عنه.
كانت جيان تعبّر عن غضبها بشكل يومي من خلال معارك أسرية ضارية، رافضة أن يملي عليها والدها ما تلبس، وكيف تأكل، ومن تعاشر. تروي لـ”963+”: “قررت أن أرسم بعض الوشوم في مناطق خفية في جسدي، ولأن الوشم ممنوع في قاموس أبي، حاولت ألا أغضبه، وذهبت خفيةً عنه وعن أمي، التي أصيبت بصدمة حين أخبرتها، فكل همّها كان أبي وغضبه إن علم”.
وشمت جيان عبارة (jin Jian Azadi) على ظهرها ورسم الشمس على فخذها، حيث لن يرى أبوها الوشمين أبداً. لكن، ما الفائدة إن كان الوشم خفياً لا يراه أحد؟ أجابت جيان: “أنا أراه، وهذا يكفيني. أنا أفعل ما أحب، فهذه حياتي وهذا جسدي. أنا سعيدة جداً بوشمي هذين”. تضيف: “أمي تخاف علينا من العنف، حتى في هذه البلاد. فالرجال شرسون في كل مكان، ونحن معرضات للخطر دائماً، وعلى الرغم من ذلك أنا مقتنعة بأن أجسادنا هي ما يحدد هويتنا”.
تكمل جيان روايتها: “أتمنى لو أستطيع أن أستقبل رفيقي في البيت فيتعرف على عائلتي، لكني أعرف إنني إذا فعلتها فسأخسر عائلتي”.
قد تكون هذه العلاقة الأبوية “القلقة”، كما تصفها خليل، أحد الأسباب المهمة التي تسهّل وقوع الفتيات في فخ الاستغلال، “وهذا خطير جداً على الفتاة السورية التي إن نجت من نذالة صديقها الذي قد يفضحها، فربما لن تنجو من مقصلة الشرف في عائلتها”.
نورا والكذب الأبيض
حين تتحدث نورا اللبنانية (19 عاماً) التي تعيش في ألمانيا، تبدو مظلوميتها في كل كلمة تختارها، مماثلة لمظلومية نظيراتها السوريات. فنورا تجاوزت السن القانونية، لا أخوة ذكوراً لها، تعيش مع أمها التي هربت بها وبأخواتها الصغيرات من حرب سوريا فيما بقي زوجها في البلاد.
تهيمن أمها على كل تفاصيل حياتها، فتقول نورا لـ”963+”: “تكلمني مرات عدة في اليوم بتطبيق الفيديو. وحين أعود متأخرة إلى البيت، تنتابها نوبة هستيريا وبكاء، وتقول إنها لا تريد أن يتشمت والدنا وعائلته بها إذا سمحت لنا بالعيش في المجتمع الأوروبي بلا رقيب، فألجأ دائماً إلى ’الكذب الأبيض‘ كي أعيش حياتي من دون أن أفقد علاقتي بأمي”.
لكن، كيف؟ تجيب: “بالموبايل.. أرسال لها صوري مع صديقاتي، ثم أخرج مع صديقي. أدخن في السرَّ وأرتاد أمكنة لن تعجبها. وأخفيت مشكلاتي المدرسية عنها، ثم غادرت المدرسة نهائياً، وعثرت عن عمل كي يكون لي دخلي الخاص”.
عيب وحرام
ترى خليل في هذا التمرد الأنثوي الشرقي في المغتربات الأوروبية ردة فعل على عنف ذكري مجتمعي متراكم، “لا يكتفي بقمع الحريات الشخصية، إنما يتعدى ذلك إلى التباهي بالازدواجية في التعامل بين الجنسين، فما هو متاح للذكر ممنوع على الأنثى، ويضاف عامل العادات الاجتماعية والقيم العشائرية التي لا تلائم هذه الأجيال، علماً أن الإلتزام الديني موجود، من دون أن يكون عامل قهر إضافياً”.
وتختم خليل أن الحرب السورية ساهمت في خلخلة المجتمع السوري، “وجعلت الفئات الهشة اجتماعياً أكثر عرضة لتحمل الآثار السلبية، ولا أكثر هشاشة من الفتيات اليافعات الآتيات من خلفية إسلامية محافظة، فهنَّ الأكثر تعرضاً للقلق الاجتماعي، والذهاب ضحية النظرة الأبوية لما هو عيب وحرام”.