تركت الحرب جروحاً عميقة في النفوس السورية، وكان الأطفال الفئة الأكثر تأثراً بما شاهدوه من أهوال. ربما يكون هذا القول عاماً، أو نظرياً، إلا أن ترجمته الفعلية ملموسةٌ جداً إن زرت واحداً من سبعة مراكز تقدم الدعم النفسي في شمال شرقي سوريا.
تجلس السيدة ع. (44 عاماً) في الصالة منتظرة دورها. لم تأتِ إلى هذا المركز للعناية النفسية بالقامشلي على الحدود السورية التركية من أجل نفسها، “إنما أتيت من أجل ابني، التلميذ في الصف الثاني إعدادي، وأريد أن يرشدني أحدٌ إلى الطريقة المثلى للتعامل معه”.
تكفكف ع. دمعها وهي تتحدث عن إبنها الذي يشرد كثيراً، وإن تحدّث فبصوت مرتفع، وبعصبية شديدة لأتفه الأسباب، حتى صارت تخافه كثيراً. تقول لـ”963+”: “عيناه متورمتان شديدتا الاحمرار دائماً بسبب قلة النوم. وقد أخبروني أنه يدخن بشراهة في حمام المدرسة، أو بعد انصرافه منها، وإن لم يتسرّب من المدرسة فهو يتشاجر مع الجميع، ويرفض في المنزل أداء واجباته المدرسية”.
أهي حالة منفردة بنفسها؟ كلا. فقد صار الاضطراب السلوكي سمة من سمات الحياة المدرسية في القامشلي والحسكة وغيرهما في شمال شرقي سوريا.
الوضع يتفاقم بلا حل
يؤكد مصدر تربوي مطلع على واقع الطلاب في مدارس الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا ومدارس الحكومة السورية انتشار الاضطرابات النفسية بين الطلبة، من المرحلة الابتدائية وحتى الثانوية. ويقول المصدر لـ”963+” إن حالات الاكتئاب والقلق واضطرابات ما بعد الصدمة تتفشى بين الطلبة الذين فروا من المعارك العسكرية في عفرين ورأس العين/ سري كانيه وتل أبيض. وهذا ما أكدته المرشدة النفسية نورا (36 عاماً) التي تعمل في مركز للدعم النفسي تابع لمنظمة دولية تنشط في إحدى مخيمات اللجوء في الحسكة.
تقول نورا لـ”963+” إن هؤلاء يعانون نوبات مستمرة من الكوابيس الليلية، إضافة إلى اضطرابات أخرى هي من مفرزات ما بعد الأزمة، “وهذه حالات لم تعالج في وقتها”، مضيفة أن بقاء هؤلاء الأطفال والأولاد في المخيمات اليوم “حافز لتنشيط تلك الاضطرابات، من دون أن نغفل الظروف المعيشية الصعبة التي تؤدي دوراً مهماً في مضاعفة آثار الحالات النفسية”.
وتتابع نورا قائلةً إن العجز عن تلبية الاحتياجات الأساسية لهؤلاء الأطفال في المدارس يخلق إحباطاً متراكماً، “وصحيح أن الحالات النفسية المتقدمة ليست كثيرة، لكنها ليست قليلة أيضاً”.
أرقام صادمة
على الرغم من صعوبة تحديد العدد التقريبي للأطفال الذين يعانون حالات نفسية تستدعي العلاج، إلا أن موظفة في أحد مراكز الدعم بالقامشلي تقول إن أمراض أكثر من 30 في المئة من المراجعين الأطفال “ناشئة من اكتئاب أو قلق”.
ويقول الأخصائي النفسي محمد طعمة محمد، من منطقة أريحا بمحافظة إدلب شمال غربي البلاد، إن 34 في المئة من أطفال تلك المنطقة يعانون أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، و42 في المئة يعانون مستويات مرتفعة من القلق، فيما يبدو على 28 في المئة من الأطفال أعراض الاكتئاب، ويُظهر 38 في المئة من الأطفال مشكلات سلوكية من عدوانية ومعاندة وقضم أظافر.
يضيف محمد أن 47 في المئة من الأطفال يعانون صعوبات في التعلم مثل عسر الكتابة وعسر القراءة، نتيجة للضغوط النفسية والبيئة غير المستقرة، فيما يعاني 23 في المئة منهم أعراض القلق الاجتماعي، إضافة إلى معاناة 43 في المئة منهم مشكلات في النوم، و22 في المئة منهم اضطرابات في التغذية.
وتقول إحصائية رسمية من “برنامج الصحة النفسية” التابعة لوزارة الصحة في الحكومة السورية، إن عدد الطلبة المصابين بالاكتئاب والاضطرابات وطيف التوحد في عموم سوريا وصل في عام 2023 إلى نحو 5167 حالة.
عنف وكذب.. وتوحّد!
وتربط ميديا أكو، وهي مرشدة اجتماعية في القامشلي، الحالات النفسية الشائعة بالوضع السائد، فتقول لـ”963+”: “لا فصل بين تلك الأمراض والحرب والفقر، فالآباء أنفسهم يعانون أعراض الشيخوخة المبكرة نتيجة التفكير الزائد والوضع العام، وفي أغلب الأحيان يعجز أولياء الطلاب عن تلبية مطالب أبنائهم، ما يسبب ردات فعل نفسية تتفاوت في شدتها”.
يردّ الدكتور محمود بدرخان، المتخصص في الأمراض النفسية والطب النفسي للأطفال، ظاهرة الاضطراب السلوكي في أطفال المدارس إلى صعوبة الأحوال المادية ومآسي الحرب وضعف الرقابة في المدرسة والمنزل معاً. ويقول بدرخان المستقر في القامشلي لـ”963+”: الاضطرابات النفسية التي تصيب الأطفال والمراهقين كثيرة ومختلفة، لكن يبقى التوحّد القاسم المشترك بينها، إلى جانب حالات مرضية ترافق تأخّر النمو وبطء تطور النطق، كالانعزال واضطراب القراءة، والسلوك الانفعالي، وفرط النشاط، وقلة الانتباه”.
ويقول محمد إن اثنين إلى ثلاثة في المئة من الأطفال في شمال غربي سوريا يظهرون أعراض اضطرابات طيف التوحد، “وربما تكون هذه النسبة أقل مما هي في الواقع، بسبب النقص في الوعي وفي القدرات التشخيصية في المناطق المتأثرة بالنزاع”. هنا، تدعو ميسم حصرية، المتخصصة في اضطرابات التوحد والنطق وصعوبات التعلم في “مركز بيسان لأطفال التوحد واضطرابات النطق والاستشارات النفسية” إلى عدم استغراب شيوع حالات التوحّد في القامشلي، كما في مناطق سورية عديدة. تقول لـ”963+” إن بعض أعراض الإضطرابات التي تصيب الطفل خلال الحرب، من اكتئاب وانفصام طفولي وتراجع القدرة على الاكتساب، تتشابه مع أعراض التوحد، “إلا أن الحرب بذاتها ليست سبباً مباشراً للإصابة بالتوحد”.
وتضيف شارحةً أن المسبب الأساسي للإصابة بالتوحد هو نقص الأكسجة، “وربما تؤثر الصدمات النفسية والعصبية من خوف وحزن التي تتعرض لها الأم الحامل في نسبة الأكسجة عند الجنين، ما قد يؤدي في حالات قليلة إلى حدوث نوع من أنواع التوحد”.
إلى ذلك، يلاحظ بدرخان شيوع حالات القلق من الانفصال عن المنزل، والهروب من المدرسة، والاضطراب السلوكي، اضطراب التحدي والتنافس بين الإخوة والغيرة، إضافة إلى التبول اللاإرادي واضطراب الأكل والحركة، بين الأطفال في السنة الدراسية الأولى. وترى أكو أن بين أبرز مؤشرات الاضطراب السلوكي في المراهقين والأطفال “السلوك العنيف والعدوانية والصوت المرتفع والصراخ والتسبب بالأذى للنفس والغير، إضافة إلى عجز الأطفال عن التكيف مع الخوف، ما يدفعهم إلى الكذب واللامبالاة، وهذا يساهم في تدني مستواهم الدراسي”.
جلسة مضطربة
تستقبل سروة علي، المرشدة النفسية في إحدى ثانويات البنات بالقامشلي، يومياً شكاوى كثيرة تتقدم بها مدرّسات ضد تلميذات يعصين توجيهاتهم ولا يلتزمن بالقوانين المدرسية، ويرفضن كتابة الوظائف، ويتشاجرن في ما بينهن، “ويفضل بعضهن الانطواء على النفس والانعزال عن الأخريات”، كما تقول.
وتروي علي لـ”963+”: “دخلت عليَّ طالبة وأبدت رغبتها في الحديث، فتركتها تتكلم على سجيتها من دون تدخّل. كان صوتها مخنوقاً وكانت دموعها محبوسة في مقلتيها وهي تخبرني عن معاناتها مع سوء التصرف. قالت لي: ’إني أتشاجر مع الجميع، وأشعر بالصداع الدائم بسبب التفكير المستمر في حالتي، وأنا لا أطلب شيئاً وأجده، وأشعر بالغيرة من جاراتي ورفيقاتي في المدرسة، وأنسى كل ما تقوله المعلمة في الصف… وما عدت أتمنى الخير لأحد‘، ثم انهارت باكية”.
وبحسب علي، مرّت هذه الفتاة في أثناء حديثها هذا بكل مراحل الاضطراب السلوكي: “تقطّعٌ في الكلام، صعوبة في التعبير، تلعثمٌ متكرر، تردد في اختيار الكلمات، شرود مستمر، نسيان تتمة الجمل، حتى تظنها طفلةً وليست طالبة في الثاني الثانوي”.
وتلاحظ علي أن حالة الطالبة هذه ليست واحدة، “فإن اختارت هذه الطالبة أن تفتح قلبها لي، فثمة عدد كبير من الطالبات اللواتي يفضلن أن يكتمن مآسيهن في قلوبهن، وهذا ينذر بانفجار اجتماعي كبير، آتٍ ولو تأخر”.
تعاون منزلي – مدرسي
تختلف التدابير العلاجية باختلاف الحالة النفسية، “لكن الأساس هو تعاون العائلة والمدرسة، فهذا التعاون يؤدي الدور الأساسي في تجاوز هذه الحالات، إضافة طبعاً إلى العلاج الدوائي”، بحسب بدرخان. وما حالة فاديا أحمد، من ريف القامشلي، مع ولدها إلا برهان إضافي على أهمية هذا التعاون.
لاحظت أحمد سلوك ابنها الغريب، وابتعاده عن الأولاد في مثل سنه، وانزواءه في المنزل، وتحدثه بكلمات غير مفهومة، وعدوانتيه أحياناً مع نفسه ومع غيره. تقول لـ”963+”: “ظننت أن سلوكه هذا في المنزل طبيعي في سنه، لكنني فوجئت بإدارة مدرسته تخبرني بأن هذا سلوكه أيضاً في المدرسة، حتى أنه حاول رمي مدفئة الصف أرضاً، ويعاند معلمته رافضاً تقديم وظائفه على الرغم من أن والده يساعده في حلها يومياً”.
التعاون المنزلي –المدرسي مهمٌ جداً في حال وجود اضطرابات سلوكية متعثرة، “لضرورة توفير البيئة الملائمة لمساعدة الطفل على التحسن، فالتناقض بين الجوين الأسري والمدرسي قد يُفاقم هذه السلوكيات”، كما تقول المرشدة النفسية لافا هسام من ديرك لـ”963+”، مضيفةً أن جهل المدرسة بحالة الطفل يزيد من صعوبة تعافيه، “والمطلوب من ذوي الطفل اللجوء إلى اختصاصي نفسي لمعرفة أسباب سوء سلوكه، وهو يرشدهم كما يرشد المدرسة كيف يمكن توفير بيئة ملائمة له كي يشعر بالأمان”.
وتعدد هسام طرق علاج تعاونية منزلية – مدرسية لتحسين سلوك الطفل، “مثل العلاج باللعب الذي يساهم في تفريغ طاقات الطفل وفي بلورة شخصيته، والعلاج بالحوار والتواصل الفعال مع الطفل، إضافة إلى اتباع أسلوب الثواب والعقاب الإيجابي في حالات العدائية.
يبدو هذا الكلام نظرياً. فقد قررت فاديا عرض ولدها على طبيب متخصص في الأمراض السلوكية، “فالمدرسة لا تهتم بولدي، ولا بالأولاد الآخرين، ولا ألومهم. فإن كانوا قد حشروا 80 طالباً وطالبة في غرفة لا تستوعب أكثر من 30، فكيف يمكنهم الاهتمام بم كلهم؟”
لكن، في القامشلي طبيبان نفسيان فقط. لهذا تكتظ مراكز الدعم النفسي وعلاج الأمراض العصبية. إلى ذلك، يفضل الناس هنا التوجه إلى هذه المراكز، حتى لو تمكنوا من حجز موعد عند أحد هذين الطبيبين، خجلاً من افتضاح أمر أطفالهم، “في مجتمع لا يرحم”، كما يقول أحد الأهالي.