إذا بدا هذا السؤال المشكك الذي تتعنون به هذه المادة للبعض بأنه لا يكتسي معقولية، طالما أنه يتناول «بدهية» استقرت عليها جماعات أصولية سنية وشيعية (ومن لف لفيفها ممن “تعلمنوا” زوراً)، ولا يمكن بالتالي مواجهته سوى بتجاهله، إلا أنه يكتسي راهينيته، ليس أقله بسبب التأكيدات المتواترة من هذه الجماعات على بداهة إسلامية سورية، والتي زادت حدتها بعد 2011. بالطبع، لم يكن بشار الأسد الأول الذي صرح منذ حوالي عشر سنوات أن سورياو هي «دولة إسلامية» (مقارناً إياها بالجمهورية «الإسلامية» الإيرانية، ليبرر بذلك تدخل أصوليي إيران) ولا حتى قائد أصولي من جبهة النصرة شدد على أن «الشعب السوري متدين بطبعه» (وهي نظرة يشاركه فيها أيضاً الأسد بأن «معظم الشعب السوري متدين بالفطرة»)، وما مهمة الجبهة هذه سوى إقامة الدولة الإسلامية وإرجاع الدولة إلى هذه «الطبيعية»، ولا حتى أقطاب من المعارضة السورية، التي لم تكل وهي تؤكد على هذه الفطرة، ولا حتى أخيراً المراقب العام للإخوان السوريين عامر البو سلامة الذي شدد هو الآخر في اللقاء الأخير له منذ أيام على تلفزيون سوريا على أن «الأصل في شعبنا السوري هو التدين الفطري».
الرابط بين هذه الجهات الثلاث، الأسد والنصرة والإخوان، (ومعهم لفيف كبير من المعارضة اليسارية) لا يتوقف فحسب على استخدام دال الإسلام ولصقه عنوة ببيولوجيا السوريين، بل كذلك في ترجمة هذا الدال من خلال المحاولة الحثيثة منهم على إعادة أسلمة الدولة السورية، طبعاً كلٌّ على شاكلته الأصولية. إنّ دال الإسلام هنا ليس دالاً تاريخياً، بل هو دال فارغ عائم، يفتقد للتعيين. ولا أحد يدعي أنه هناك «إسلام حقيقي» ما لكي يتم تطبيقه في واقعنا. للمرء أن يتساءل: ما هو بالضبط الإسلام أو ما هو مدلول الإسلام الذي يُبتغى منه تعريف سوريا وشعوبها وطوائفها وإثنياتها به؟ الأسد يخبرنا من خلال شعار وزارة الأوقاف أن دينه في سوريا هو «الإسلام كما أنزل»، وكذا بالضبط هو حال إسلام الإخوان وإسلام النصرة وإسلام داعش وإسلام أصوليي حزب الله وإسلام الطغمة الأصولية الإيرانية وحركاتها الإرهابية في سوريا الخ. إن صراع كل هؤلاء الأصوليين ضد بعضهم البعض حول الإسلام أو «ما هو الإسلام» الذي يُراد تعيينه في الدولة السورية ومجتمعاتها المتعددة ما هو سوى تأكيد على فراغ محتوى اصطلاح الإسلام من أي بعد هوياتي تاريخي.
ليس هناك «الإسلام» بألف ولام التعريف، لكي يتم لصقه بالدولة السورية وتعريفها به. فهذا لا يتعدى سوى دال عائم شكّل في تأزماتنا السورية الحالية (وقبل ذلك أيضاً) في ظل غياب الهوية الوطنية محطة صراع الكل ضد الكل: أي صراع «على» الإسلام و«في» الإسلام، لكن «من دون» إسلام.
وما صراع هذه الجهات ضد بعضها البعض سوى صراع على ملئ هذا الفراغ، لكنه أيضاً توكيد آخر على غياب الانشغال بسؤال الدولة ووطنيتها، والقفز بدلاً من ذلك إلى الانغماس في أسئلة هويات مخيالية تستبسل الالتجاء إلى تكوينات ما دون الدولة أو وما فوقها. ومن المهم إدراكه أن الأسلمة التي تشهدها سوريا اليوم من قبل الكثير من الحركات الأصولية (ومن بينها السياسة الإسلامية للأسد)، لا تسعى فحسب لتمتين أصوليتها من خلال زرع إسلام متخيل على مقاسها، بل السعي لإيجاد أرض خصبة لأصوليات إسلامية مدعومة من قبل قوى خارجية نعلمها كلنا، والتي يسعى كل منها لفرض هذا المخيال على الدولة كهوية لسورية. من هنا صعوبة الحديث عن إسلام سياسي واحد في سوريا، بل إسلامات سياسية سورية يستخدم كل منها شماعة الإسلام بغية تحقيق سياسته.
لا شك، التأكيد على طبيعة «إسلامية المجتمع» السوري أو تدينه ليست جديدة سواء من قبل سوريين، أو من قبل باحثين غربيين ممن يمارسون ألعاب الأرقام والنسب المئوية في عدّ أعضاء الطوائف وربط سورييها بروابط دينية متخيلة تستبسل بالبيولوجية مرتعاً لها ولتربط بذلك بين الدين والإثنية على نحو مخيالي. بيد أن التشديد على هذا اليوم يأتي في ظل وسواس قهري طغت حدته مع صعود حروب المقدس والجهاد المغلفة بهويات قومية ودينية (وإلى هذا تنتمي كذلك أصولية مسيحية مخيالية أخرى معاندة تشدد على «سريانية» الدولة لا «عربيتها» وإسلاميتها). ولا يجب أن ننسى أن من يشدد على هوية الدولة دينياً ينسجم تماماً مع سياسات دولية تشجع على الطابع الهوياتي والنظر لمجتمعاتنا كما لو أنها «مخلوقات متدينة» على الأرض لا تستقيم مع القيم الحداثية والديمقراطية، هذا فضلاً أن هذا التشديد على «إسلامية» سوريا (أو حتى التشجيع على قيام دويلات طوائف وإثنيات) يتوافق تماماً مع، وبل ويبرر ما تطلبه السياسات الإسرائيلية اليمينية للاعتراف بها في المنطقة كـ«دولة يهودية». وهذه بالفعل مشاريع أصولية يهودية وإسلامية يخدم بعضها البعض، ويسكن كل منها في رحم الآخر.
وبعيداً الآن عن هذه النقطة الأخير، فإنني لا أنكر أنه هناك مقدار من التدين في بعض المجتمعات السورية، بيد أن الإشكال هو لا تعميم هذه المقولة فحسب (وبالتالي إلغاء متعمد لمعظم من يختلف عن هذا الحكم)، بل كذلك إدماج هذا التدين كما لو أنه الشرط البيولوجي الدموي لنا، من دونه لا يستقيم شرطنا البشري، ولا حلّ لنا بالتالي إلا بحكم إسلامي على الأرض. فالدين هنا لا يتعدى شرط الدم، وهو الشرط الذي به يستقيم القياس. فالسوري، وفقاً لهذه الأصولية، ديني بدمه، ديني بأصله homo religiosus ، (إذا ما استعرنا مثل هذه التعابير الشعبوية) لا يستقيم إلا بحكم ديني. وطالما أن السوريين هكذا متدينون بالخليقة، فإنه لا يمكن ترويضنا إلا بالدين، ولا يمكن حكمنا إلا بالإسلام. وهذ بالفعل، ما يريده الأصوليون في النهاية، وهو ما يجسد أحد أهم الهرطقات الأصولية التي سارت بها كذلك السياسة الإسلامية للأسد.
والحال، فإن سؤال ما إذا كان تدين بعض مجتمعاتنا قد جسد بالفعل حاضنة لهؤلاء التيارات، لهو سؤال لا يمكن البت به هنا في هذه العجالة. بيد أن الإشكال الحقيقي الذي يجب التنويه إليه هو خطر السياسات الأصولية التي تسعى إلى تبيييء نفسها اجتماعياً بنحو مديد (في مناطق الأسد كما في المناطق التي ترعاها سياسات أصولية مثل تركيا). كما أنه لا يمكن التأكيد على مقولة تتكرر في الكتابات الغربية على أن صعود هذه التيارات يرتبط عضوياً باستعداد ديني سوسيولوجي يسيطر على اجتماعنا. إنه من المهم التشديد أن معظم هذه الحركات الأصولية التي شهدتها سوريا لم تجسد على الإطلاق انعكاساً على دينية مفترضة للمجتمعات السورية، بل جسدت شرطاً «صناعياً» فرضته علينا عمالقة أموال دولية وإقليمية وسياسية أصولية، هكذا لتملأ هذه الساحات السورية بأصوات المقدس والجهاد ومشاريع الحسين والزبير والبغدادي وزينب الخ. ولا ننسى أخيراً أن أطيافاً واسعة من معارضاتنا السورية، المحسوبة زوراً على العلمانية، ساهمت منذ انطلاق الحراك السوري، سواء بنحو مباشر أو غير مباشر، لا بتجاهل التأثيرات الإسلاموية والطائفية التي بدأت تتغلل في الحراك فحسب، بل ساهمت كذلك حتى بأسلمته، وغالباً كان هذا يتم في ظل الحجج التي بدأنا المقال بها، وهي أن دينية السوريين هي الشرط الطبيعي الذي يستجيب لـ«الفطرة الإسلامية»، طالما أن البيولوجيا السورية هي إسلامية بأصلها. وهذا بالفعل قمة الخلف التاريخي!
من هنا ضرورة إعادة طرح هذه الأسئلة مجدداً، وخاصة في سياق كشف لنا بعد كل هذه السنين من التأزم بُعدنا الكبير عن إجابة جامعة حول سوريا التي نسعى لها، حول سؤال الإسلامات المتعددة فيها، حول الدولة والهوية والوطنية الخ. النقطة الملحة، بحسب رؤيتي، تتجسد أولاً وقبل كل شيء بتجاوز موروث الخراب السياسي والديني الذي أوصل السوريين لما وصلوا إليه وإعادة التفكير النقدي والتاريخي باصطلاحات الإسلام والدولة والعلائق بينهما، وهذا لا شك لا يتم إلا وفق شروطنا السورية حصراً وما تبغيه حاضراً، لا وفق القفز إلى هويات مخيالية (سواء إسلامية كانت أم غيرها) تتجاوز الدولة وشرطها التاريخي.