في أي دولة تتوقف الحياة العامة خوفاً من الغش في الامتحانات الرسمية؟ الجواب واحد لا ثاني له: “سوريا”. هذا ما يحصل اليوم. فخوفاً من أن يغش الطلاب في امتحانات الثانوية العامة التي بدأت في 26 أيار/مايو 2024، قُطع الانترنت وتوقف النبض في الاتصالات الخلوية بشكل تام ونهائي في كل البلاد.
سلوك قهري
حسناً. ليس هذا القطع في الانترنت والاتصالات الخليوية الأول في سوريا، فهو متكرر منذ سنوات، ولا حل مألوفاً له، ولا مبتكراً، ، لا في وزارة التربية والتعليم ولا في وزارة الاتصالات، بينما يرضخ المواطن، بلا حول ولا قوة.
لكن، شهد العام الحالي “طفرةً” في ساعات قطع الانترنت والاتصالات. فلنحو 20 يوماً متتالية، لا إنترنت ولا اتصالات خليوية بين 6 و11 صباحاً ما دامت مواد الامتحانات مهمة، كالرياضيات والفيزياء والكيمياء والتاريخ والفلسفة، فيما تقل ساعات القطع أحياناً في أيام الامتحان بمواد الديانة والتربية الوطنية.
وفي ما يشبه تبرير السلوك القهري الذي تمارسه السلطة في سوريا، يتحجج المسؤولون بحوادث حدثت في الأعوام السابقة، من تسريب أسئلة الامتحانات قبل ساعات قليلة من بدئها ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي. حصل هذا الأمر فعلاً، لكن السؤال الملحّ هنا: “هل يبرر ذلك إيقاف الساعة البيولوجية لوطن بكامله، وهل يعلم من اتخذ هذا القرار أي كارثة تحل بالبلد إن حصل طارئ يستدعي التواصل السريع؟”.
مصطفى جمران مهندس إنشائي، لا ناقة له في التربية ولا جمل في الاتصالات، لكنه عليمٌ بالكوارث التي تتأتى من هذا القرار. يقول لـ”963+”: “لنفترض أنني خطفت أو تعرضت لحادث أو صادفت حريقاً أو أغمي على زميل لي أو سقط عامل من طابق عالٍ في ورشة.. لا نهاية للفرضيات هنا، فكيف أتواصل مع المعنيين وأنقذ أرواحاً لا يكلف إنقاذها أكثر من اتصال هاتفي؟”.
ويضيف: “هذا يتكرر في كل عام، هذا شهر أسميه شهر حبس الأنفاس”، وهو ممتن أن أمر القطع مقتصر على الانترنت والاتصالات، “فماذا لو شكّ أحدهم في أن الغش ممكن بالعدوى، فهل يجبرون الناس على قطع النفس؟”.
من نقاضي؟
في مثل هذه الأيام “الامتحانية” العصيبة في العام الماضي، شاء القدر المؤلم أن تصاب الستينية شاهندة خلف بأزمة قلبية عاجلتها في منزلها بمدينة حمص.، وألقت بها أرضاً. كانت بعيدة عن الدواء الذي تتناوله، وكان أولادها كلهم خارج المنزل. هاتفها بيدها، لكن الخدمة مقطوعة، فوافتها المنية وحيدةً.
لم يخرج ابنها ممدوح من هول الصدمة بعد. يقول لـ”963+”: “كان يمكن إنقاذ حياتها، فكل ما كانت تحتاج إليه هو قرص مميع للدم، وإسعاف تنقلها إلى المستشفى كما أخبرني الطبيب لاحقاً”، ويضيف: “كان هاتفها بجوارها وقد حاولت الاتصال بي وبإخوتي مراراً، لكن بلادنا، الامتحانات تقتل فعلياً”.
يتدخل أخوه أحمد ويقول لـ “963+” إنّه وإخوته فكروا كثيراً بمقاضاة المسؤول عن وفاة والدتهم، “لكنّنا لا نعرف خصمنا لنقاضيه، أهو وزير التربية؟ أهو وزير الاتصالات؟ لا نعرف صاحب هذه الفكرة التي أفجعتنا ويتّمتنا”. ويضيف: “في هذا البلد، مكتوب علينا أن نموت، غرقاً أو برداً أو جوعاً أو قهراً أو حزناً، وقد رضينا بما كتب لنا، لكن أن نموت خوفاً من أن يغش أحدهم في الامتحان، فهذا أمرٌ أعجز عن تحمّله”.
خطأ جسيم
غادرت السبعينية أم عبدو هذه الدنيا في أحد مشافي العاصمة دمشق، بعد عملية جراحية في الدماغ أدخلتها في غيبوبة أياماً قليلة، وما استطاعت ابنتها المهاجرة أن تكلمها، أو تودعها. فالخطأ الجسيم، ربما، كان تحديد موعد العملية في أحد الأيام الامتحانية.
يقول عبدو صابوني، بكر ام عبدو، لـ”963+” إنها أرادت أن تكلّم أخته مايا بتقنية الفيديو، “كي تراها وتودعها قبل العملية، فما استطاعت إلى ذلك سبيلاً بسبب قطع سبل الاتصال، فجعلها هذا الأمر في حالة ذهنية ونفسية سيئة”.
ويضيف: “ربما يبدو هذا الأمر سخيفاً لبعضهم، لكنّ سياسةً فوضوية حرمت الأم من وداع ابنتها، ولربما هي ما أدخلها في غيبوبة، فالأطباء يؤكدون أنّ أمي كانت في حالة من الصدمة والشرود في الساعة التي سبقت العملية”.
سوء حظ!
في هذا العام بالذات، وفي 28 أيار/مايو ثالث أيام الامتحانات، كان على المهندس سعيد الإدلبي أن يكون في تمام الثامنة والنصف في مكتب المسؤول عن التوظيف في الموارد البشرية بإحدى الشركات التقنية بدمشق، “لكنني تهت في الطريق، وما عرفت عنوان الشركة التي علّقت على عملي فيها كل آمالي”، كما يقول لـ”963+”.
ويروي الإدلبي: “ظننت خطأً أنني أعرف موقع الشركة. وحين أدركت خطأي، كان الوقت متأخراً. فلا هاتف لأكلمهم، ولا إنترنت لأبحث عن الطريق في خرائط غوغل… كانت ساعات عصيبة”. وحين تمكن من التواصل مع الشركة، أخبروه أن وظيفته قد أُسندت إلى مهندس آخر.. “فضاع الأمل، وعليّ الآن أن أبحث من الصفر عن وظيفة في بلد لا وظيفة فيه، ولا أمل”.
وحصل في دوما، بريف دمشق، اصطدام مروري لم يسفر عنه إصابات، لكن خلافاً نشب بين المتصادمين. ولعدم تمكن أي من المارين الاتصال بشرطة المرور، كاد الرجلان أن يتعاركا بالأيدي.
يقول شاهد عيان لـ “963+” إن هذا الإشكال حُلّ بذهاب أحد المارة على متن دراجته النارية لإبلاغ أفراد شرطة المرور شفهياً لكي يعاينوا السيارتين وينظموا المخالفة اللازمة”.
ونشبت نيران في منزل بحي الحاضر بحماة، وكادت تقضي عليه كله وتمتد إلى المنازل المجاورة لولا تضافر جهود الأهالي لإخمادها، بعد تعذر التواصل مع رجال الإطفاء. وكذلك، تبرّع أحد المواطنين بالذهاب إليهم بسيارته الخاصة لإبلاغهم.. لكن، بعد فوات الأوان.