بعد أكثر من عقد من السيولة الميدانية، والصراع، والانقسامات، تعود سوريا لتتصدر مشهدًا إقليميًا معقدًا ومفتوحًا على كل الاحتمالات. تأتي سيناريوهات العودة على خلفية متغيرات جيوسياسية عميقة، وتقاطعات دولية متشابكة، بيد أن ثمة محاولات عربية لاستعادة سوريا الجديدة داخل محيطها العربي، بعيدًا عن خرائط النفوذ الإقليمية والدولية.
في هذا السياق، يفتح عبد الرحمن صلاح، سفير مصر السابق لدى تركيا، عدسة ديبلوماسية دقيقة في حواره لـ “963+”، حيث قال إن المشهد السياسي شديد التشابك، خاصة حين يتعلق بسيناريوهات النجاح نحو استعادة سوريا إلى الحضن العربي، مروراً بتوازنات القوى المتداخلة في دمشق، وصولًا إلى الرهانات الكبرى على ملفات إعادة الإعمار، وعودة اللاجئين، وتعقيدات العلاقات السورية – الخليجية والمصرية، والتحديات التي تواجه النظام السوري الجديد في ظل إرث طويل من الانقسامات والتحالفات الدولية المتبدلة.
وفي هذا الحوار، لا يكتفي مساعد وزير الخارجية الأسبق السفير عبد الرحمن صلاح بتشخيص الواقع، بل يضع تصوراً لما ينبغي أن يكون عليه المسار العربي إزاء “سوريا الجديدة” – رؤية تتسم بالوضوح، وتنطلق من إدراك عميق للتاريخ والجغرافيا والسياسة. وفي المقابل، يطرح الضرورات التي ينبغي على الإدارة الجديدة في دمشق أن تلتزم بها حتى تتحقق العودة الكاملة لسوريا الجديدة.
وإلى نص الحوار:
بتقديرك، هل عادت سوريا فعلياً إلى الحضن العربي، أم أن المسار لم يبدأ بعد في رأي بعض القوى العربية؟ وهل تعتقد أن هناك تفاهماً عربياً موحداً تجاه الموقف من “سوريا الجديدة”، أم أن المقاربات ما زالت متباينة؟
في رأيي، لم تخرج سوريا أبدًا من الحضن العربي، وإنما تفاوتت رؤى الدول العربية إزاء الحرب التي دارت في سوريا طوال الخمسة عشر عامًا الماضية. فقد اختارت بعض الدول الخليجية وتركيا والغرب التدخل لمساعدة المقاومة المسلحة ضد نظام بشار الأسد، ومحاولة الإطاحة به بالقوة بعد أن رفض التوصل لتسوية سياسية، واستعان بروسيا وإيران لدعمه عسكريًا لتثبيت أركان حكمه. واختارت مصر وغالبية الدول العربية عدم التدخل في تلك الحرب الدائرة داخل سوريا. واستضافت القاهرة تحالف المعارضة السلمية السورية التي لم ترفع السلاح، ولم تتسبب في إراقة الدماء السورية. وحاولت مصر السعي للتوصل إلى اتفاق سياسي لإنهاء تلك الحرب، وشاركت في كل الجهود الدولية التي لم تكلل بالنجاح للأسف، بسبب عدم تجاوب نظام بشار الأسد، الذي سقط مؤخرًا بفعل انكسار شوكة حليفيه: الإيراني (في مواجهة إسرائيل)، والروسي (بسبب الحرب الأوكرانية).
وبالتالي ما التطور الذي حدث حالياً؟
اليوم، ما زال هذا التفاوت في مواقف الدول العربية قائمًا، بسبب طبيعة توجهات السلطة الجديدة في دمشق، وانتماءات قادتها لتيار الإسلام السياسي، وتاريخ بعضهم في القتال في صفوف تنظيمات مثل القاعدة وداعش وجبهة النصرة. ورغم اعتراف كل الدول العربية بالسلطة السورية الجديدة، وقبولهم لها كممثل شرعي لسوريا في الجامعة العربية، فإن قبولهم وتأييدهم لها، لا شك، يتأثر بمواقفهم من الحكام السوريين الجدد خلال الحرب وقبل سقوط النظام. فأولئك الذين أمدّوهم بالمال والسلاح، سارعوا لاحتضان الشرع ورفاقه، وللتكفّل مع تركيا بنفقات إدارة الدولة ومرافقها، والدعوة إلى رفع العقوبات الدولية عن سوريا، والترويج للحكام السوريين الجدد، ووصفهم بأنهم قد انتقلوا من مرحلة الثورة وتطرفها، إلى رشادة وعقلانية ووسطية الحكم، وما يفرضه من قيود ومسؤوليات.
هل ثمة شروط أو طلبات ينبغي أن تتوفر لعودة سورية كاملة وفاعلة إلى المشهد العربي؟ وكيف نقرأ بدقة رؤية القاهرة من تطور الأحداث في دمشق؟
لا شك أن هناك تعاطفًا عربيًا كبيرًا مع سوريا في الآونة الأخيرة. فنشرات الأخبار تتصدرها صور القصف العسكري الإسرائيلي للمواقع السورية، وتوسع القوات الإسرائيلية في غرب وجنوب سوريا بدعوى حماية الأقليات السورية، واحتلال تركيا للشمال السوري بدعوى التحوّط ضد انفصال الأكراد، الذين يتمتعون بحماية القوات الأمريكية في شرق البلاد. كما يتعاطف المصريون مع مئات الألوف من اللاجئين السوريين الذين يعيشون في مصر، ومع الملايين الذين نزحوا من بيوتهم وقت الحرب.
وفي المقابل، فإن استقبال القيادة السورية لعناصر من الإخوان المسلمين المصريين المطلوبين في قضايا جنائية في مصر، وتعيين بعضهم في مناصب قيادية في الجيش السوري، لا بد أن يؤدي إلى استعداء المصريين، حكومةً وشعبًا. كما أن السماح لأنصار تيار الإسلام السياسي باستخدام دمشق كقاعدة للهجوم على الحكومات العربية المناهضة لهذا التيار، لا بد أن يؤدي إلى تأليب تلك الحكومات ضد النظام السوري الجديد.
هل يمكن الفصل بين عودة سوريا السياسية وملفات مثل إعادة الإعمار واللاجئين؟
قامت مصر بتوجيه الدعوة إلى الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع، للمشاركة في القمة العربية غير العادية التي انعقدت في القاهرة منذ شهرين، للنظر في تطورات القضية الفلسطينية. والتقى الشرع بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وغيره من القادة العرب. وسوف تشهد القمة العربية المقبلة في بغداد أول مشاركة للقيادة السورية الجديدة في قمة عادية بجدول أعمال مكتمل، يتضمن بحث كيفية مساعدة سوريا في مجالي إعادة الإعمار وعودة اللاجئين.
وسوف يتوقف تجاوب الدول العربية والأجنبية مع دعوات المساهمة في إعادة إعمار سوريا على سلوك النظام السوري الجديد إزاء طوائف الشعب السوري المختلفة، وفي مواجهة الدول ذات التأثير النافذ على الأرض في الإقليم السوري، وخاصة تركيا وإسرائيل والولايات المتحدة وروسيا. ولا أنكر أن موازنة كل هذه التأثيرات مسألة شاقة، وتعترضها عقبات كثيرة. ولا يمكن تجاهل المصالح الخاصة لكل من تلك الدول، والتي قد لا تتفق مع المصلحة الوطنية كما يراها معظم السوريين، وتلك التي قد تفضلها القيادة السورية الجديدة.
فعلى الرغم من أن تركيا – مثلًا – تعارض إنشاء دولة كردية في شمال شرق سوريا، فإنها بدأت فعلًا منذ عشر سنوات إنشاء منطقة “عازلة” في شمال سوريا، ووطّنت فيها أنصارها من المعارضة السورية من السنّة، بهدف خلق إقليم سني سوري يمتد بموازاة لواء الإسكندرونة (هاتاي التركي)، وتعد مدينة حلب مركزه، ويخضع للنفوذ التركي، وتتولى الشركات التركية عملية إعادة إعماره بتمويل أوروبي، مقابل عدم إطلاق تركيا للاجئين السوريين في اتجاه الحدود الأوروبية، برًّا وبحرًا.
وكذلك تتظاهر إسرائيل بأنها توسّع انتشار قواتها وعملياتها العسكرية داخل سوريا بغرض حماية أمنها القومي، وأمن بعض الأقليات مثل الدروز السوريين. وطبعًا، لا يخفى على أحد أن الهدفين الرئيسيين لإسرائيل هما توسيع رقعة الأرض التي تحتلها في سوريا لتشمل كل المرتفعات الاستراتيجية ومصادر المياه، لكي تحاول ضمّها لحدودها التي تتوسع باستمرار، كما فعلت مع الجولان. ويتمثل الهدف الإسرائيلي الثاني في تشجيع كل الأقليات في الدول العربية على الاستقلال عن الدولة الوطنية التي ينتمون لها، بغرض تحويل العالم العربي إلى دويلات: سنّية، وشيعية، ومارونية، ودرزية، وكردية، وأمازيغية، وبحيث تصبح الدولة اليهودية هي القوة الإقليمية المسيطرة في المنطقة.
كيف نقيّم موقف الخليج، خاصة السعودية والإمارات، من دمشق بعد خطوات الانفتاح الأخيرة والزيارات المتبادلة؟ وهل ترى أن المصالحة العربية السورية تتزامن مع تسويات سياسية داخل سوريا، أم يمكن أن تسبقها؟
أعتقد أن سقوط نظام الأسد، ودخول الشرع وفصائله إلى دمشق، كان نتاج التطورات الأخيرة في المنطقة، وثمار تفاهم تركي – روسي دعمته ورحّبت به الولايات المتحدة، ومن ورائها دول الخليج. وأرى أن النظام الجديد في سوريا أمامه فرصة طيبة للمحافظة على هذا الدعم الإقليمي والدولي، ولكنه يحتاج إلى دعم كافة الأطياف والأقليات في سوريا، وكبح جماح الفصائل الجهادية التي دعمته للوصول إلى الحكم. وهكذا، فإن التوصل إلى تسويات سياسية داخلية تدعم وحدة الدولة، يؤدي أيضًا إلى مزيد من الاطمئنان والثقة من جانب القوى الدولية والإقليمية في القيادة السياسية الجديدة. وسوف يكرّس من هذه الثقة أن تتعاون الحكومة السورية مع الدول العربية والأجنبية في مجال مكافحة الإرهاب، وألّا تستضيف الأراضي السورية أية جماعات تتآمر ضد أي من الحكومات العربية، أو تخطط لأية أعمال إرهابية في دول أخرى.
ما فرص نجاح المبادرات العربية في دفع حل سياسي حقيقي في سوريا؟
كانت محاولات التوصل لحل سياسي في سوريا قبل سقوط الأسد تتم تحت رعاية قوى دولية غير عربية. وأتوقع أن تستمر الدول صاحبة النفوذ على الأرض داخل سوريا، وخاصة تركيا، في لعب الدور الأكبر في صياغة وتشجيع أية تسوية سياسية. ونظرًا للتطورات الاقتصادية والجيوسياسية التي يشهدها النظام الدولي حاليًا، فإنني أتوقع أن يقع على عاتق دول الخليج، بصفة خاصة، عبء تمويل الجانب الأكبر من إعادة الإعمار في كل من سوريا وغزة. ولا شك أن ذلك الدور سوف يعطي لدول الخليج ثقلًا في التأثير على التسوية السياسية، وكيفية تنفيذها، والرقابة عليها. كما سوف تحتاج سوريا الجديدة دعمًا سياسيًا عربيًا لرفع العقوبات الغربية والدولية عنها.
وإذا ما أثبتت القيادة السورية الجديدة كفاءتها وفعاليتها في التعامل مع كل هذه التحديات، سوف يكون للمستثمرين والمقاولين العرب، وفي مقدمتهم المصريون، فرصة كبيرة للعودة إلى السوق السوري الذي غابوا عنه خمسة عشر عامًا. ويكفي أن أذكر أن خط أنبوب الغاز العربي الذي يبدأ في مصر، ويمر في الأردن وسوريا، كان ينقصه فقط حوالي مئة كيلومتر داخل الأراضي السورية ليصل إلى الحدود التركية. وهو نفس الخط الذي كانت مصر تنوي استخدامه لتزويد لبنان بالغاز المصري أو الإسرائيلي، الذي يتم ضخه إلى مصر والأردن من خلال هذا الخط. وهكذا، يمكن أن يكون استقرار سوريا فاتحة لتعاون كبير في منطقة شرق المتوسط.