مع دخول سوريا مرحلة جديدة بعد رحيل نظام بشار الأسد، تترقب الصين بحذر تطورات الأوضاع هناك، بهدف تحديد معالم دورها المستقبلي وصياغة استراتيجيتها بناءً على التغيرات السياسية والأمنية والاقتصادية في البلاد. فبكين، التي لطالما انتهجت سياسة عدم التدخل المباشر، تراقب المشهد عن كثب لاستشراف الفرص والمخاطر التي قد تواجهها في هذه الجغرافيا المتحولة.
وتنتهج الصين سياسة حذرة في تعاملها مع الإدارة الجديدة في دمشق، وتراقب مدى نجاحها في عبور المرحلة الانتقالية، وهو ما يحدد طبيعة العلاقات المستقبلية بين الجانبين. وتدرك بكين أن تحقيق الاستقرار في سوريا وتشكيل مؤسسات حكومية فاعلة، إلى جانب استتباب الأوضاع الأمنية، سيكون شرطاً أساسياً لمشاركتها الفعالة في مشاريع إعادة الإعمار، والاستثمارات النفطية، وتوسيع نطاق مبادرتها “الحزام والطريق”.
اعتبارات أمنية
لا تنحصر المصالح الصينية في سوريا في الجانب الاقتصادي فحسب، بل تمتد إلى الشق الأمني، حيث تولي بكين أهمية قصوى لضمان عدم تحول سوريا إلى ملاذ للجماعات المتطرفة التي قد تهدد أمنها وأمن المنطقة ككل. وقد انعكس هذا التوجه في دعم الصين المستمر للنظام السابق على الساحة الدولية، والدعوة المتكررة إلى رفع العقوبات عنه.
وترتبط سوريا بموقع استراتيجي ضمن مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، مما يدفع بكين إلى البحث عن فرص استثمارية في الموانئ السورية، مثل مرفأي طرطوس واللاذقية، بالتنسيق مع روسيا، التي تمتلك وجوداً عسكرياً في كلا المرفأين. إلا أن تحقيق هذا الطموح يبقى مرهوناً بتطور العلاقات الدولية، لا سيما بين روسيا وأمريكا، وبين روسيا والإدارة السورية الجديدة.
ورغم أن الصين تسعى إلى ترسيخ وجودها في الشرق الأوسط، فإن العامل الدولي، ولا سيما الولايات المتحدة، قد يشكل عائقاً أمام طموحاتها الاقتصادية في سوريا. فواشنطن، التي تفرض عقوبات مشددة على دمشق، لا تزال تراقب أي تحركات صينية في المنطقة، مما قد يحدّ من قدرة بكين على الاستثمار بحرية.
مناورة سياسية
من جانبها، تسعى الإدارة الجديدة في دمشق إلى استثمار علاقتها مع الصين كوسيلة للمناورة مع أوروبا والولايات المتحدة، على أمل تخفيف العقوبات المفروضة عليها. ومع ذلك، فإن الحذر الصيني التقليدي في التعامل مع قضايا الشرق الأوسط قد يحدّ من إمكانية استغلال دمشق لهذه العلاقة في تحقيق مكاسب استراتيجية.
وفي هذا السياق، يؤكد البروفيسور الصيني وانغ نينغ، في تصريحات لـ”963+” أن العلاقات بين الصين وسوريا قائمة منذ فترة طويلة على التعاون الودي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. ويوضح وانغ أن الصين تركز على نقطتين رئيسيتين في تعاملها مع سوريا: الأولى “دعم العملية السياسية بأن تدعم الصين الحل السياسي بقيادة سورية وملكية سورية، وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2254، وتدعو المجتمع الدولي إلى احترام حق السوريين في تقرير مستقبلهم دون تدخل خارجي. كما تطالب بتقديم مزيد من المساعدات الإنسانية لسوريا وتعزيز دور الأمم المتحدة في هذا الصدد.
أما النقطة الثانية بحسب وانغ، فهي “محاربة الإرهاب، إذ يجب أن تؤكد الصين أن موقفها الرافض للتسامح مع الإرهاب لن يتغير، مشددة على ضرورة استهداف جميع المنظمات الإرهابية المدرجة على قائمة مجلس الأمن. كما تعرب عن قلقها من وجود جماعات إرهابية، مثل حركة تركستان الشرقية الإسلامية، وتطالب دمشق بالالتزام بمكافحة الإرهاب ومنع أي تهديد للأمن الصيني”.
ويختتم وانغ حديثه بالتأكيد على أن بلاده لا تريد أي وجود لقوات على الأراضي السورية قد تهدد الأمن القومي الصيني، مشيرًا إلى أن هذا الموقف واضح وثابت.
عقوبات ومستقبل اقتصادي
أما الكاتب السوري فراس علاوي، فيرى أن القوى الدولية والإقليمية تعيد ترتيب مواقفها من سوريا بناءً على تداعيات سقوط النظام السابق، مشيراً إلى أن جميع الدول تبحث عن مكاسب اقتصادية وسياسية في سوريا وفقاً لمصالحها.
وفي حديثه لـ”963+”، يقول علاوي: “الظرف الحالي لا يسمح بتدخل دولي واسع في سوريا، خاصة من الناحية الاقتصادية، بسبب العقوبات الأمريكية المفروضة عليها. لذا، فإن كل الدول تترقب تطورات الأوضاع قبل الدخول بقوة إلى السوق السورية”.
ويضيف أن الصين، رغم وقوفها إلى جانب النظام سياسياً في مجلس الأمن، لم تقدم دعماً اقتصادياً واسع النطاق، مقارنة بحجمها كقوة عالمية. ويرى أن بكين تبحث عن منفذ اقتصادي في سوريا، إلا أن العقوبات الأميركية تجعل تحقيق ذلك أمراً صعباً في الوقت الراهن.
ومع دخول سوريا مرحلة ما بعد الأسد الابن، تظل الصين لاعباً حذراً، يوازن بين مصالحه الاقتصادية، وأولوياته الأمنية، وعلاقاته الدولية. ورغم تطلعها إلى دور أكبر في سوريا، فإن العقوبات الأميركية والموقف الدولي يشكلان عائقاً أمام تحقيق طموحاتها. وبينما تبقى بكين تراقب المشهد عن كثب، فإن مستقبل وجودها في سوريا سيعتمد إلى حد كبير على تطورات الأوضاع السياسية والأمنية في البلاد، ومدى قدرتها على تجاوز العقبات الدولية المفروضة على دمشق.