رمضان يا شهراً كان لنا وطناً، كيف تحول إلى غربة؟ كيف تحولت لياليه الجميلة إلى صدى حزن في أزقة الذاكرة؟ كيف تحولت موائده الممتدة إلى سراب يداعب جوع الروح؟ عبدو شاكر، من مدينة القامشلي في شمال شرقي سوريا، أب لأربع بنات وخمسة شباب يتذكر جيداً كيف كانت بيوتهم قباباً من نور، تتلألأ فيها وجوه الأحبة، وكيف كانت صلة الرحم جسراً من ذهب يربط بين القلوب، وكيف كانوا يتبادلون الزيارات، ويقسمون اللقمة، ويتبادلون الدعوات، بحسب ما يروي لموقع “963+”.
رمضان في سوريا الجريحة
يتذكر عبدو شاكر موعد الإفطار وكيف كانوا ينتظرون بفارغ الصبر صوت مدفع الإفطار والذي طغى عليه أصوات مدافع حقيقية حتى قتلوا وتشرد منّهم الكثيرين، أو صوت المؤذن الذي يصدح في أرجاء الحي أو قراهم البعيدة والمنسية في خلوتها، فيقول: “كانت لحظات الإفطار لحظات لا تنسى، نلتف حول المائدة، ونبدأ إفطارنا بالبسملة وتمر وكأس ماء من ايدي الأولاد، ثم ننتقل إلى ما أعدته لنا الأيادي الرحيمة”.
هذا الشهر في سوريا ليس كأي شهر في السنة، “يمتزج فيه الإيمان بالحزن”، يقولها شاكر وتتجلى الروحانيات العظيمة في ظل واقع مرير يكتنف حياة السوريين وقد فقدوا الكثير من أحبائهم، إما في الحرب أو تحت الأنقاض أو بسبب الاغتراب، ويضيف: “تغيب عن موائد الإفطار وجوه كانت تملأها بهجة وسعاة”.
نزوح وفقر مدقع
يعاني الكثير من السوريين من الفقر المدقع، ويجدون صعوبة بالغة في توفير أبسط مقومات الحياة، ويعيش ملايين السوريين خارج الوطن، رمضان في سوريا يحمل معه طعم الحزن الذي يلف كل مكان، فقدان الأحبة، والدمار الذي خلفته الحرب، والفقر الذي يعاني منه الكثيرون، كل هذه العوامل تجعل من رمضان شهراً يختلط فيه الفرح بالحزن على وجه الأمهات خاصة.
تحاول زوجة عبدو شاكر “أم زهير” أن تجعل الأمل دافعاً للاستمرار في الحياة وتقول لـ”963+”: “كانت ليالي رمضان مليئة بالفرح والحب، لكن تغير كل شيء، تفرقت عائلاتنا، وهاجر من حمل قلبه على يديه إلى بلاد بعيدة، لم يبق من طقوسنا سوى القليل هنا، لم تعد بيوتنا تعج بالحياة، ولم تعد قلوبنا تنبض بالمحبة كما كانت، رمضان الآن هو شهر الحنين، شهر الذكريات، شهر الألم والفقد والبكاء”.
وأصبح الآن شهراً للاغتراب والوحدة، العائلات مشتتة بين المدن والدول، والناس منهمكين في أعمالهم وحياتهم الخاصة، وتتابع “أم زهير” حديثها: “فكم من لقمة ستكون لها طعم دمعة أو أكثر”.
ومن مدينة عامودا غربي القامشلي، تشارك شيخة عثمان (87 عاماً)، أم لثلاثة أولاد وابنتان مقيمين في المهجر، رغيفها على وسائل التواصل الاجتماعي مع أولادها وتقول لـ”963+”: “أصبح الناس يقضون معظم وقتهم في عالم افتراضي بارد، ومع ذلك، يبقى الأمل في أن يعود رمضان إلى ما كان عليه في الماضي شهراً للمحبة والتسامح، وأن يكون فرصة للتغيير والتجديد”.
وعندما تتحدث شيخة مع أبناءها يجتمع الضحك والحنين الى رؤيتهم على المائدة، ولم تعد تعرف كيف تتوقف عن صلاتها وتضرعها وتقول: “فلتكن حسرتي على لقائهم مثل حسرتي الطويلة على ما يحدث لسوريا”.
قباب النور وصلة الرحم الذهبية
عائلة أسيرة الذكريات على مائدة الافطار، و”شيخة” تتأمل عودة أبنائها إلى حضنها من جديد، لكن رودي درويش 54 عاماً من مدينة الحسكة، رغم أنه يجلس في صالون المنزل لوحده ولا وجود لأولاده هنا، إلا أنه يتسامر الأجواء الرمضانية مع الجدران وكله شغف وأمل في عودة قريبة لأولاده بقدوم عيد الفطر ويقول لـ “963+”: “خلال السنوات الأربع الماضية، هاجر أطفالي إلى أوروبا مثل معظم السوريين، وبقيت وحدي أشاطر صدى همساتهم في كافة المناسبات وليس فقط رمضان”.
ويعيش أبناء رودي بعيداً عن الأجواء والطقوس الرمضانية في سوريا، إلا أنهم يتحدون الظروف ويجعلون من أمل العودة في مناسبة العيد صلة وصل تجمعهم مع والدهم وهذا الشهر، “عادات وتقاليد الصيام لم تعد كما هي، ولكننا نحرص على الصيام ونعلم أبنائنا قيم التكافل والتضامن”، يقول رودي.
ويضيف رودي: “رمضان في الغربة ليس كرمضان في الوطن، ولكننا نحاول من خلال التواصل أن نحافظ على هويتنا وتقاليدنا”.
ورغم كل هذه المعاناة لا يزال السوريون متمسكين بأملهم في غد أفضل، يحرصون على إحياء شعائر رمضان قدر استطاعتهم، ويحاولون أن يجعلوا منه هذا العام شهراً للصبر وسلاحهم هو الدعاء في مواجهة الظروف الصعبة.