لا شك أن الموقف التركي في مستقبل سوريا مرتبط إلى حد بعيد بالتطورات الداخلية في تركيا من جهة، وتصوراتها للوضع الاستراتيجي في الإقليم من جهة أخرى. وحول ذلك الوضع، من وجهة نظري، فإنه بعد سحب التفويض الأميركي لروسيا في سوريا ومن ثم في الإقليم بكامله، وما جرى بعد دخول روسيا إلى أوكرانيا، انهارت فعلياً في السابع من أكتوبر جميع أسس الحرب الباردة التي كانت قائمة بين إيران وإسرائيل، والتي كانت روسيا فيها وسيط القوة.
كانت روسيا تتوسط بين إسرائيل وإيران وتركيا، إضافة إلى النظام السوري السابق والمعارضة السورية وحتى دول الإقليم، بما فيها المملكة العربية السعودية. ومع انهيار الوساطة الروسية بعد السابع من أكتوبر، انهارت بالكامل مؤسسات الثقة والاستقرار الإقليمي التي كانت تديرها موسكو في المنطقة. ولذلك، شكّل هذا التطور عاملاً مهماً بالنسبة لتركيا. وكما قال نتنياهو إنه سيعيد تشكيل المنطقة، فقد وجدت تركيا فراغاً يمكنها الدخول منه لقلب الطاولة، بما يضمن لها دوراً رئيسياً في الإقليم، ويسمح لها بإعادة ترسيخ وضعها الاستراتيجي، وتأمين نفوذ مباشر في الشرق الأوسط عبر الحصول على حصة معينة في تشكيل الوضع في سوريا.
من الناحية السياسية، أعتقد أن تركيا تدرك الآن المخاطر الكبيرة التي تهدد استقرار الوضع، والذي قد يشكل بحد ذاته خطراً على أمنها القومي. لا شك في أن بيان أوجلان كان عاملاً مهماً في تهدئة الكثير من التوترات فيما يتعلق بالوضع في شرق الفرات، على الرغم من وجود جهات لا ترى في ذلك مصلحة لها. وبالمقابل، أصبح من الممكن فصل القضية الكردية السورية عن القضية الكردية التركية، حتى من الناحية السياسية، إذ يمكن القول إن القضية الكردية السورية أصبحت الآن مرتبطة بالوضع الداخلي السوري.
الولايات المتحدة لعبت دوراً رئيسياً في الوساطة بين “قسد” والحكومة السورية في دمشق. وعملياً، فإن الأحداث التي شهدها الساحل السوري مؤخراً خلقت انطباعاً قوياً بأن البلاد قد تتجه نحو حرب أهلية، مما يهدد بانهيار كل ما أنجزه أحمد الشرع. لذلك، فإن الحديث الرئيسي الآن يدور حول التحول نحو البحث عن قواسم مشتركة بين المكونات السورية.
أما بالنسبة للموقف التركي، فلدينا مثال العراق؛ إذ إن تركيا في البداية قاومت عملياً تشكيل السلطة الذاتية في كردستان العراق، لكنها أصبحت الآن من أبرز الداعمين لها. وبالتالي، إذا نظرنا إلى المصالح القومية التركية العميقة، أعتقد أنه ضمن المحددات التي وضعتها الولايات المتحدة لنشاط الدور التركي، ستجد أن لها مصلحة في لعب دور معين في تحديد وضع الأكراد في تشكيل الدولة السورية، بحيث يكون لهم وضع دستوري خاص في شرق الفرات.
بلا شك، لا يمكن إنكار أن الطريق لا يزال طويلاً فيما يتعلق بالعلاقة مع تركيا وحل الإشكالات التاريخية في هذا المجال. ولكن العقبة الرئيسية التي كانت تعرقل الموقف التركي، من وجهة نظري، قد تم تجاوزها عبر عدة مراحل.
العامل الرئيسي في ذلك كان رسالة أوجلان، التي كانت في غاية الأهمية، إذ حولت القضية الكردية التركية إلى قضية وطنية داخلية. أما العامل الآخر، فهو الاتفاق الذي أنجزه السيد أحمد الشرع مع “قسد”.
لا شك أن الطريق في هذا المجال لا يزال طويلاً، وتركيا تتابع عن كثب كيفية درء المخاطر في هذا السياق. وبالمقابل، أعتقد أنها قد تحاول تكريس ما تم الاتفاق عليه مع الأميركيين، خاصة فيما يتعلق ببعض المناطق الحدودية بين سوريا وتركيا، حيث تسعى لأن يكون لها نفوذ مباشر عبر قوى موالية لها. على سبيل المثال، فإن الهجمات التي وقعت مؤخراً تشير إلى أن تركيا تراقب الوضع السوري بالكامل بحذر شديد.
السؤال الرئيسي الذي يطرحه جميع الدبلوماسيين، بمن فيهم الأتراك، هو: هل يستطيع السوريون العيش معاً بشكل مشترك؟ هذا السؤال لا يمكن أن يجيب عليه إلا السوريون أنفسهم. وإذا شعرت الدول بأن السوريين غير قادرين على التعايش، فإن كل طرف من الأطراف المحيطة بسوريا سيحاول فرض واقع معين بأشكال مختلفة، مما قد يحول سوريا عملياً إلى ساحة صراع مستمر.
أعتقد أن “قسد” لديها مصلحة أساسية في عدم دفع الأمور نحو مزيد من التعقيد. كما أن الاتفاق الأخير شكّل تنازلاً عن بعض التفاصيل التي يمكن معالجتها لاحقاً في إطار الحقوق الدستورية. وبالتالي، تم تأجيل القضايا الرئيسية المتعلقة بالوضع في شرق الفرات ومناطق التواجد الكردي لتكون جزءاً من المفاوضات الداخلية السورية في المستقبل.
على الرغم من ذلك، لا تزال الأوضاع غير مستقرة، ونحن نبحر في بحر سياسي عاصف، حيث يحاول العديد من اللاعبين قلب الطاولة. هناك قوى في جميع الأطراف لا ترى مصلحة في إنجاح هذه العملية، سواء لأسباب شخصية مباشرة أو لأسباب استراتيجية.
لذلك، أعتقد أن المسؤولية الرئيسية الآن تقع على عاتق السوريين أنفسهم، لضمان الحد الأدنى من السلم الأهلي، والسير بالبلاد نحو رسم شروط العيش المشترك بطريقة تفاوضية طوعية. وهذا يشمل وضع إطار واضح للعلاقة بين مختلف المكونات، إلى جانب تحديد نموذج الدولة الاقتصادي بما يحقق التوافق بين جميع الأطراف.