في حرب مستمرة منذ أكثر من 10 أعوام، ألحق استخدام مختلف أنواع الأسلحة بالبيئة السورية أضراراً فادحة، وكأن التلوث الناتج من تكرير النفط بطرق بدائية وتزايد الانبعاثات الضارة من عوادم السيارات لم يكن كافياً لضرب صحة السوريين. ويضاف إلى ذلك انحسار الغطاء النباتي في سوريا بسبب غزو العمران المسطحات الخضراء والتصحّر المتعمد الناجم عن التحطيب الذي يغزو الغابات، ونضوب المياه بسبب سنوات الجفاف المتتالية.
لم يكن ما تقدّم إلا بياناً مقتضباً لتفاقم واحدة من أعقد الأزمات التي تصيب سوريا في تاريخها، حيث لا مكان للوعي البيئي في مجتمع يجتهد يومياً لتحصيل قوته، وحيث تأتي المشكلات البيئية في أسفل درجات الأولويات، حتى في ظل تلوث رباعي فظيع: هوائي ومائي وترابي وغذائي.
لكن، كيف يُطلب من المواطن في شمالي سوريا أن يفكّر في يوم عالمي للبيئة، أو أن يفكر ببيئته الخاصة، “إن كان همّه الوحيد أن يعود إلى بيته في آخر النهار، سالماً أولاً، وقادراً على إطعام عائلته ثانياً”، كما يسأل مسعود مجيد، حامل شهادة الدكتوراه في الهندسة البيئية في حديثه عن يوم البيئة العالمي.
هواءٌ.. فتُراب
يقول مجيد لـ”963+” إن البيئة في شمالي سوريا وبالأخص شرقها من أخطر البيئات في سوريا كلها، فكل مظاهر التلوث موجودة فيها. يضيف: “إن تحدّثنا عن تلوث الهواء، فيكفي أن ننظر في الشوارع لنرى بأم العين الملوثات الغازية المنبعثة من عوادم المركبات”، علماً أن نسبة التلوث الناتجة من كل مركبة متصلة بسنة صنعها وبجودة محركها ونوعية وقودها، “وأغلبية المركبات في شمال شرقي سوريا قديمة، تجاوز الكثير منها العمر التصميمي، وهي متهالكة يستخدم سائقوها وقوداً مليئاً بالرصاص، يتحدّر من نفط خام يكرّر بطرق بدائية لا تُراعي أدنى الشروط البيئية في النسبة المقبولة من المعادن الثقيلة”.
وبحسب مجيد، تتصاعد العناصر الملوثة إلى الطبقة الجوية العليا وتتكتل لتلوّث الهواء. ومتى هطلت الأمطار، صاحبتها أمطار حامضية، فتضر بالتربة والنبات وبالحيوان النباتي أيضاً، “وهذا خطير جداً”، كما يقول المهندس الزراعي رامان درويش من القامشلي لـ”963+”، مضيفاً: “تلوث التربة بالمشتقات النفطية يُفقدها صلاحيتها للزراعة، والأخطر هو تلوث تربة شمال شرقي سوريا مباشرة بالنفط الخام، حين يتسرّب من الصهاريج القديمة المتهالكة في أثناء نقله لتكريره، وبذلك نخسر أخصب وأجود تربة في سوريا”.
تلوث مائي وزراعي
وبما أن الطبيعة وحدة متكاملة مؤلفة من حلقات بيئية متصلة، فإن تلوث البيئة بالنفط ومشتقاته يجرّ معه تلوثاً في المياه الجوفية، وفي مياه الأنهار والبحيرات والسدود. يقول دارا أحمد، وهو مهندس مدني متقاعد عمل في دائرة المياه بالحسكة، لـ”963+” إن تلوث المياه في الحسكة والمالكية والقامشلي، وفي مدن أخرى أيضاً، كارثة إنسانية حقيقية، “فمياه نهري الخابور والجغجغ أسوأ مصدرين لمياه الري، لأنها تختلط بمياه الصرف الصحي فتزداد نسب تلوث المياه الجارية بالعناصر الكيماوية الثقيلة”.
وبحسب أحمد، لا محطات لتكرير مياه الصرف الصحي ومعالجتها في شمال شرقي سوريا، إنما تدار إلى الحقول لاستخدامها في الري. يسأل: “كيف سيكون وضع الخضار والفاكهة التي يتناولها الناس هنا، إن كانت مروية بمياه ملوثة بعناصر كيماوية ثقيلة؟”.
حتى المنازل
الجواب عن سؤال أحمد “صعب جداً، لا يمكن أن يتحمله ضمير إنساني”، كما يقول مجيد، مضيفاً: “لكن، ثمة ما هو أخطر بعد. ففي النظام المتقطع لتغذية الأحياء بالمياه، لا تتدفق المياه دائماً في الأنابيب، فتترسب فيها الملوثات الحيوية والكيماوية، وحين تعود المياه بعد انقطاع، تجرف معها هذه الملوثات إلى خزانات المنازل”.
ويلفت مجيد إلى مسألة النفايات المنزيلة والصناعية والطبية المنتشرة في الحاويات، حيث لا فرز من المصدر، ولا وعي لإعادة التدوير، “حتى ترى الناس يتخلصون من المخلفات البلاستيكية والكرتونية وغيرها برميها أحياناً في الطبيعة”، كما يقول، محذراً من خلط النفايات المنزلية بالنفايات الطبية، “لأن هذا يقودنا إلى كوارث وبائية قاتلة في غياب حاويات حديثة بمعاير بيئية عالية من حيث إحكام إغلاقها، أو المسافة بين حاوية وأخرى، ولا ننسى أن البحث في القمامة أمر شائع، وهذا يزيد الأمر خطورة”.
البيع أرحم
قسّم رضوان أحمد، وهو من أهالي الريف الشرقي للقامشلي، أرضه الزراعية إلى 40 قسيمة للبيع، وخصص لكل دونم قسيمة من أجل بناء عقار بنظام المزرعة، فباع منها 17 دونماً. يقول لـ”963+”: “اضطررت إلى ذلك، فمداخيل الزراعة غير مجدية، فلِمَ أتعب موسماً كاملاً من دون جدوى، إن كان سعر الدونم الواحد يتراوح بين 2500 و4000 دولار؟ لذلك بعت أرضي وأرسلت ابني إلى أوروبا وابنتي لتدرس الطب البشري في دمشق”.
لا يمكن مراعاة الدقة في تحديد مساحة الأراضي الزراعية التي تحولت إلى مشاريع للتطوير العقاري، بحسب مصدر في مديرية الزراعة للحكومة السورية، فضّل عدم ذكر اسمه لأسباب خاصة. لكنه يقدّر في حديثه مع “963+” أن “نحو ربع المساحات المخصصة للزراعة في محافظة الحسكة تحولت إلى عقارات مبنية”.
المشكلة تتعاظم في المدن، حيث يؤدي غزو الإسمنت إلى حرمان السكان هنا من الهواء النظيف. يقول دانيال حسين من القامشلي لـ”963+”: “قبل خمسة أعوام، كان هذا الحي عامراً بالأشجار الوارفة، وكان البيت بعيداً عن الآخر. اليوم، لا نفس ولا شجر… ولا ترى إلا الحجر، وكأننا نعيش في كتلة إسمنتية تعيسة”.
كيف نعيش بلا هواء؟
يؤكد مجيد ألا مراعاة للعناصر البيئية والمناخية في التوسع العمراني الجاري في شمال شرقي سوريا، “لكن، في غياب الشجر، كيف سيعيش البشر بلا أكسيجين؟”.
ويعقب الطبيب مروان خالد، المتخصص في الطب العام والمُقيم في النمسا، على ما يقوله مجيد بالتأكيد أن قطع الأشجار سبب أساس في التلوث الذي يحرّك في الإنسان أمراضاً مختلفة، “منها الخطير كأنواع السرطان، ومنها الفجائي مثل أمراض القلب والأوعية الدموية، ومنها الوبائي كالكوليرا واللشمانيا، ومنها الصدري كضيق التنفس والربو”.
ويقول مصدر خاص في مشفى البيروني التخصصي بالأورام وأمراض الدم في دمشق لـ”963+” إن أكثر من نصف مرضى السرطان في المشفى “آتون من شمال شرقي سوريا”. وهذا مشفى واحد فقط. ويؤكد الطبيب دانيش حاج إبراهيم، المتخصص في الأورام وأمراض الدم، من عيادته في القامشلي لـ”963+” أن نسبة الإصابة بالسرطان في الحسكة، مقارنة بباقي الأمراض، تقترب من 9 في المئة، “وأغلبية الحالات ناشئة من تلوث بيئي”.
فماذا بعد؟ يقول الأكاديمي والباحث فريد سعدون من القامشلي لـ”963+”: “ثمة استحالة في اجتراح حلول ناجعة لمشكلة البيئة في شمال شرقي سوريا، ما دامت أسباب التلوث مستمرة، حتى أننا نراها تتفاقم يوماً بعد يوم ومنها استخراج النفط وتكريره بطرق بدائية، وتسيير آلاف المركبات التي تعمل بالمازوت السيء، وتدمير الزراعة لبناء العمارات التي تعدّ هي نفسها تلوثاً بصرياً، فننقطع من الهواء النظيف”.
ماذا بعد؟ يُجيب مجيد: “إن لم نبادر إلى حماية الإنسان والبيئة، فالآتي أعظم”.