إن كنت تعيش “عالبساطة”، وتغني مع الراحلة صباح “تغديني خبزة وزيتونة وتعشيني بطاطا”، فلست مصنفاً بالضرورة تحت خط الفقر. فحتى الطبقة الوسطى، أو ما بقي منها، في سوريا قد لا تستطيع أن تتعشى بطاطا يومياً بعد ارتفاع سعرها، وقد يصعب على أفرادها تحصيل الزيتون بعدما كان أحد أصناف مؤونة السوري من عام إلى عام.
أينما تولّوا اليوم، فثمة حسرة على ما وصلت إليه الحال، وتوق إلى اقتصاد ما قبل عام 2011، وترحّم على أيام البركة بعدما صارت الفاقة عنواناً عريضاً في البيت السوري. وإلى جانب هذا كله، تسمع التاجر والمواطن والموظف يلومون “الدولار” الذي قلب كل المعادلات، والذي يتحكم بسعر السوق عرضاً وطلباً… والذي وسّع التفاوت الطبقي وألغى الطبقة الوسطى تقريباً.
كرونولوجيا الانهيار
حين بدأت الحرب في سوريا في عام 2011، صمدت الليرة السورية أمام الدولار، واستمر سعر الصرف أقل من 50 ليرة سورية للدولار، فكان راتب الموظف يتراوح بين 300 و600 دولار شهرياً. لذا، بقيت القدرة الشرائية للمواطن السوري، إلى أي طبقة انتمى، عالية نسبياً، وظلت الأسعار الاستهلاكية في الأسواق السورية مناسبةً إلى حدٍ ما للسواد الأعظم من السوريين، ما وفّر للأسرة السورية نوعاً من الاستقرار المعيشي.
بقي الوضع مقبولاً حتى عام 2014، على الرغم من ارتفاع تدريجي في سعر صرف الدولار واكبه ارتفاع في مؤشر الأسعار الاستهلاكية. في عام 2015، بدأت الصعوبات تتراكم في أفق الاقتصاد السوري، وازداد الأمر صعوبة عاماً بعد عام، لكن سعر صرف الدولار بقي دون 700 ليرة سورية. حصل الانقلاب بنهاية عام 2019: بدأ الدولار يقفز قفزاته المريعة، وشهدت الأسعار الاستهلاكية ارتفاعاً غير مسبوق في تاريخ سوريا.
بدأ الانهيار الحقيقي في عام 2023، إذ تجاوز سعر صرف الدولار في السوق السوداء 15000 ليرة سورية، فجنّ جنون الأسعار، وعجز نحو 60 في المئة من السوريين عن توفير قوت يومهم، في ظل فرق شاسع بين الدخل والنفقات المحصورة بالأساسيات، وأولها الغذاء.
فعلى سبيل المثال، تضاعفت أسعار البيض واللحوم ومشتقات الحليب أكثر من 150 مرة، وصارت “عالبساطة البساطة” حياةً لا مفر منها.
كماليات في الأساسيات
حتى الغذاء، صار فيه أساسيات وكماليات. يقول أيمن نفّاع أحد الموظفين في محافظة دمشق لـ”963+”: “تفرغ السوق من الخضار التي لا يمكن الاستغناء عنها، بعدما شطب الكثير من السوريين اللحوم من قائمة الطعام”، مضيفاً أن أسعار الخضار هي أيضاً “تحلّق ولا يستطيع أحد ضبط ارتفاعها المفاجئ فجر كل يوم”.
يبدو أن نفّاع يوجّه سهامه خِفيةً إلى التجار، فيرد محمد خالد السمّان، أحد تجار الخضار في ضاحية قدسيا بريف دمشق، بالقول لـ”963+” إن تقلّب أسعار الصرف بشكل يومي يضرّ بالتاجر قبل أن يضر بالمستهلك، “فلم نعد نعرف على أي سعر نبيع”. ويلفت إلى تزايد تكاليف النقل بسبب عدم توفر الوقود وارتفاع أسعاره، فهذا يساهم في ارتفاع الأسعار، “ونرجو حلّ هذه المشكلة لأن الناس يحملوننا المسؤولية، ونحن متضررون أكثر من غيرنا”.
لكن، هل أنت متضرر أكثر من الموظف الذي كان ينتمي إلى طبقة وسطى تحرك الاقتصاد الجزئي في البلاد، “وصارت الآن في موت سريري؟” كما يسأل الموظّف ياسر البردان. يقول لـ”963+” إن نسبة الموظفين هي الغالبة في سوريا، وهي الأكثر تأثراً بالواقع الاقتصادي المتردي، “فما أتقاضاه لا يكفيني يومين في الشهر، فكيف أعيش مع أسرتي باقي أيام الشهر، إن لم يكن بيدي صنعة أو مهنة حرة، وكل اتكالي على راتبي هذا؟”.
أحجية ولغز
لا يردّ خبراء الاقتصاد في سوريا إن سألتهم عما سيحصل بالدولار، فيما تذهب كل الإجابات نحو أحجية “سياسة التسعير”. فالمواطن السوري يحتار من أين يشتري حاجياته اليومية، إن كانت أسعارها تتفاوت بين متجر وآخر.
يقول علي ونوس، مدير شؤون التسعير في وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، لـ”963+” إن التسعير يتم على أساس مدروس، ويأخذ في الحسبان تكلفة المنتج والمواد الداخلة فيه وأجور النقل وتذبذب سعر الصرف، “ما ينعكس مباشرةً على سعر السلعة، خصوصاً إذا تكونت من مواد مستوردة”، مذكراً أن المديرية تصدر نشرات التسعير بناء على ما سبق، مع حساب هامش الربح لكل حلقة من حلقات التسويق، “مع التأكيد على وجوب إصدار فاتورة لحصر الجهة التسويقية غير الملتزمة بنشرة الأسعار”، من المصنع، إلى تاجر الجملة، فبائع المفرق.
ويشير سامر أسعد سوسي، معاون وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك، إلى أن الوزارة تعمل من خلال المؤسسة السورية للتجارة لضمان سياسية التدخل الإيجابي في معظم السلع الأساسية للمواطن لبيعها بسعر مخفض عن الأسواق، ودوريّات التموين موجودة في السوق بشكل متواصل لتسطير محاضر ضبط بحق المخالفين. يقول لـ”963+”: “لكن، مهما عملت الوزارة ودورياتها، لا بدّ من تعاون المستهلك معها، وتقديم الشكاوى بحق المخالفين”.
ويلاحظ سوسي إقبالاً كبيراً من المواطنين على صالات المؤسسة السّورية للتجارة ومنافذها لشراء المواد الغذائية، “فالفارق في الأسعار دفع المواطنين للتوجه إلى صالات المؤسسة التي تشهد ازدحاماً شديداً في فروعها كلها، وهذا دليل على أننا نحقق الهدف الأساسي للوزارة، أي تأمين المواد الاستهلاكية بأسعار تنافسية وبجودة عالية”، كما يقول.
لكن أحجية الاختلاف في التسعير، ولو وجدت من يجترح لها الحلول، لا تلغي اللغز الأكبر: ارتفاع سعر الصرف يؤدي إلى ارتفاع في أسعار السلع الاستهلاكية، فلماذا يستمر هذا الارتفاع في الأسعار حين تنتعش الليرة السورية وتستعيد القليل من عافيتها؟ هل من يجيب؟