خاص – طارق علي/دمشق
حال الاقتصاد السوريّ اليوم لا يسمح بمظاهر البذخ. إن كانت هذه قاعدة، فاستثناؤها هو “ليلة العمر”. هذا جواب كل من تسأل إن كان يرى أن إقامة حفل زفاف باذخ أمراً لازماً، وكأن السعادة الزوجية لا تتم إلا بصرف الملايين في ساعات قليلة. وإن رآك متبرماً بجوابه، ردّ الأمر برمته إلى “الأعراف الاجتماعية العامة”.
المحيّر فعلاً أن هذا الأمر مشترك بين أغنياء يصرفون ما في الجيب كله، وهم عارفون أنه “سيأتيهم ما في الغيب”، وبين فقراء يصرفون ما راكموه في جيوبهم في سنينهم الزاهرة، ويرزحون تحت غلبة الدين سنيناً عجاف.
ليلة الانفصال
أحبها لكنه لم يستطع تلبية طلبات والدها، فانفصلا. كلمات قليلة تختزل حزن أحمد وسّوف الذي أوشك على أن “يدخل دنيا”، لكنّ إصرار أهل خطيبته على حفل زفاف بأكثر من 150 مدعواً في صالة “محترمة” أرهقه.
يقول وسّوف لـ”963+”: “أصرّ والدها على ’فرحٍ يفتح العين‘ أمام الأقارب والمعارف. عرضت عليه أن نستعيض عنه بحفل منزلي صغير وبشهر عسل يدوم أسبوعاً كاملاً في شرم الشيخ، فرفض، ورفضت خطيبتي بحجة أنها ’مرة واحدة في العمر‘، وأمها تريد أن تفرح بها بالأبيض بين الناس”، علماً أن أسبوعاً بكل تفاصيله في شرم الشيخ لا يكلف أكثر من ألفي دولار.
وجد وسّوف نفسه في مأزق كبير، خصوصاً أنه رصد نحو ثلاثة آلاف دولار لشراء المصاغ الذهبي. يقول: “في ظل الارتفاع الجنوني في سعر الذهب، لم يكن هذا المال ليشتري أكثر من 40 غراماً، أي ’شبكة‘ بسيطة”. تراكمت المشكلات المتعلقة بحفل الزفاف، وانتهى الأمر – بكل بساطة – بانفصاله عن خطيبته.
لا تختلف معاناة مراد سلّوم عن معاناة وسّوف. فقد حاول مسايرة والد خطيبته قدر استطاعته، إلى أن وصل حبّه “إلى طريق مسدود اقتصادياً”، كما يقول لـ”963+”. يضيف: “لم أجد قاعة جيّدة تقدم لنا كرسياً بأقل من 200 ألف ليرة (نحو 14 دولاراً)، وحين ضغطت المصاريف وقللت الضيوف كان الزفاف سيكلفني 50 مليون ليرة (نحو 3400 دولار). فكيف ذلك وأنا اشتريت أرخص عقد وخاتم في سوق الذهب بنحو 15 مليون ليرة (تعادل 1000 دولار)، وكدت أموت حتى أمنت سعرهم. فكيف أبدأ حياتي مديوناً؟”.
حاول سلّوم إقناع أسرة خطيبته بوجهة نظره، فدبت الخلافات بينهم. لم تفلح التدخلات الأسرية في تليين موقف والد العروس، فانتهى الأمر بالانفصال. يقول سلّوم مقهوراً: “أحببتها وأحبها، لكن يبدو أنني لا أستحقها، لأني لم أقم زفافاً يرقص فيه والدها”.
“هل أنت سعيد يا عمي؟”
التعنّت نفسه حرم ميساء من رجل حلمت بأن يكون شريك حياتها في السراء والضراء، ولم تعلم أن الضراء ستكون عاجلة جداً. فوالدها رفض أن تتزوج من دون زفاف كبير. يقول لـ”963+”: “ليست ابنتي أقل من أختها التي تزوجت بزفاف كبير، وليست أقلّ من بنات خالاتها وصديقاتها، وما ارتكبت عيباً لأزوّجها بلا بهرجة”.
يشذ مصطفى عبد الناصر عما يبدو أنها قاعدة. فقد واجه التعنت نفسه، لكنّه أبى التخلي عن “نور حبيبة القلب”، بعد خطوبة دامت عاماً وعلاقة حبٍ دامت عاماً قبلها.
وعبد الناصر مهندسٌ حكومي يتقاضى كغيره أكثر قليلاً من 20 دولاراً في الشهر. يقول لـ”963+”: “أنا لا أعرف طعم الخسارة، وكنت أعرف منذ اللحظة الأولى أن ’أبو نور‘ مصرّ على إقامة حفل زفاف”. فبادر سريعاً إلى الحصول على قرضٍ، وباع أرضاً صغيرة كان يملكها في ريف حمص الغربي، وأخرج مدخراته التي تعب أعواماً في مراكمتها، وصرف المال كله لدفع مهر نور وشراء مصاغها من الذهب ودفع تكاليف الزفاف… “فانبهروا”.
لم يدُم انبهارهم طويلاً. يتابع عبد الناصر: “في اليوم التالي، حين زارنا عمي، قلت له بالفم الملآن: هل أنت سعيد؟ استدنت وبعت أملاكي كي تفرح في زفافٍ ما أرادته ابنتك، وما أردته أنا، لكنك أصريت عليه، فحرمت حفيدك الآتي من حياة مريحة”.
20 عاماً فقط!
تتراوح تكلفة أي عرس عادي في سوريا بين 75 مليون ليرة سورية (5000 دولار أميركي) و225 مليون ليرة سورية (15 ألف دولار أميركي)، تبعاً لعدد المدعوين الذي يقترب دائماً من 200 شخص في معدل وسطي، بحسب ما يقول مؤنس الحمصي، صاحب إحدى صالات الأفراح في ريف دمشق، لـ”963+”.
ربما يبدو رقم “5000 دولار” هزيلاً لبعضهم، لكن من يستسهل صرف هذا المبلغ في ليلة واحدة، عليه أن يفكر جيداً. فبحِسبةٍ اقتصادية بسيطة، إن كان متوسط الراتب الوظيفي الشهري نحو 300 ألف ليرة سورية (20 دولاراً أميركياً)، يحتاج صاحب العرس بعد زفافه 250 شهراً ليسترد ما دفع… أي نحو 20 عاماً.
ويضيف الحمصي: “قد تتجاوز هذه التكلفة عتبة 750 مليون ليرة سورية (50 ألف دولار أميركي) في الأعراس الفخمة التي تقام في فنادق دمشقية معروفة. وأحياناً، يصل البذخ بأصحاب الزفاف إلى دفع أكثر من 1.5 مليار ليرة سورية (100 ألف دولار أميركي) ثمناً لفرحة ليلة العمر هذه”. ويرد الحمصي هذا التفاوت في التكاليف إلى مكان إقامة الحفل، ونوع الطعام المقدم، والاستعانة بفريق للتصوير يواكب العروسين في يومهما المضني، بدءاً بتحضيرات العروس وزينتها ومروراً بزينة العريس، وانتهاءً بتصوير الحفل الساهر.
ففي الفنادق الفخمة، تتراوح تكلفة الحفل متضمنة تكلفة العشاء بين 550 ألف ليرة سورية (نحو 37 دولاراً أميركياً) و800 ألف ليرة سورية (نحو 54 دولاراً أميركياً) للشخص الواحد، بحسب نوع الطعام وكميته، فيما تتراوح التكلفة نفسها بين 300 ألف ليرة سورية (20 دولاراً أميركياً) و350 ألف ليرة سورية (نحو 24 دولاراً أميركياً) للشخص الواحد في صالات الأفراح المتوسطة، وتتدنّى إلى حدود 150 الفاً (10 دولارات أميركية) في الصالات العادية.
صوّرني.. بـ45 مليون!
وتتصاعد تكلفة التصوير كثيراً إن أراد أصحاب الزفاف الاستعانة بفرق تصوير معروفة، تستخدم أحدث التقنيات من كاميرات محمولة وثابتة ومتحركة، بحسب ما يقول جورج حنّا، صاحب إحدى صالات الأفراح في منطقة بلودان بريف دمشق، لـ”963+”.
فتكلفة التصوير الفخم تتراوح بين 15 مليون ليرة سورية (1000 دولار أميركي) و45 مليون ليرة سورية (3000 دولار أميركي)، فيما يكلّف التصوير العادي بين 6 ملايين ليرة سورية (400 دولار أميركي) و12 مليون ليرة سورية (800 دولار أميركي). ويضاف نحو 30 مليون ليرة سورية (2000 دولار أميركي) مقابل استخدام إضاءة فخمة و”ديكورات جميلة”، أو نحو 7.5 ملايين ليرة سورية (500 دولار أميركي) لإضاءة عادية.
وثمة من يطلب كاميرات جوية تحملها المسيّرات، لكن هذه تستخدم داخل الصالة أو الفندق، لأن استخدامها الخارجي ممنوع في سوريا، إلا بموافقات أمنية مسبقة.
يضاف إلى ذلك كله تكاليف خبراء “تصميم الحفلات” الذين يتولون إدارة الزفاف، وأجور المطربين، علماً أن بعض مشاهير الغناء يتقاضون مبالغ تساوي تكاليف الزفاف كله.
منطق اللا منطق!
هل يمكن أن نتفهم وجهة نظر والد ميساء حين يقول: “إن كان خطيبها هذا غير قادر على إسعادها اليوم بفرح جميل في أقل تقدير، فلم لا تنتظر، ففي الحياة خيارات أفضل؟”.
لكن، إن كانت الأمم المتحدة تذكر السوريين بأنّ 90 في المئة منهم يعيشون تحت خط الفقر، فهل سيجد “خيارات أخرى” ملائمة بسهولة؟
هذا المنطق يُغضب وسّوف، بل إنه يقول إن العائلات السورية اليوم “فقدت المنطق السليم في التعامل مع مسألة الزفاف ومصاريفه”. يضيف: “لو رضوا بعرضي، لكنا تزوجنا، وبقي في رصيدنا نحو 150 مليون ليرة (ما يعادل 10 آلاف دولار). أليس هذا مبلغاً جيداً نبدأ به حياتنا الزوجية؟ إنهم لا يقدرون أحوال الشباب في البلد، ثم يتأففون من تفشي العنوسة”.
ولا يخالفه سلّوم الرأي، إنما يعبّر عن الأمر بطريقة عاطفية أكثر. يقول: “لا أصدق أن حبّ أربع سنين، بكل ما فيها من عواطف جياشة ومشاعر صادقة وأحلامٍ ببيت دافئ وعائلة جميلة قد انتهى، لأن والدها يريد زفافاً يتباهى به أمام أقاربه وأصدقائه على حسابي، وعلى حساب سعادة ابنته المستقبلية، وهو يعلم منذ اللحظة الأولى أنني لست بقادر على تمويل تباهيه هذا”.
إن كانت هذه حالات تتكرر في المجتمع السوري اليوم، فهي لا تنفي أن صالات الأفراح عامرة بحفلات الزفاف، وبعضها محجوز لأشهر مقبلة، ولا تنفي أن الحياة مستمرة، بمرّها وبحلوها الذي يتحول بعد انتهاء الزفاف مراً.