خاص – مأمون الحلبي/عفرين
ذهب البشر والحجر ضحية الفوضى والحرب في سوريا، وحان دور الشجر. تعليقٌ يكاد لا يفي المسألة الحاصلة اليوم في مدينة عفرين، في محافظة حلب بالشمال السوري، بعدما تصرّ فصائل “الجيش الوطني” المدعومة من تركيا على التمادي في انتهاكاتها ضد الطبيعة هناك، بإقدام عناصرها على تأجير أحراش المدينة للتجار مقابل مبالغ مالية كبيرة، ليبادر هؤلاء إلى ممارسة القطع الجائر الذي طال آلاف الأشجار الحرجية والمثمرة.
تقول مصادر محلية إن هذا القطع الجائر ليس جديداً. وقد أشارت تقارير محلية في عفرين إلى قطع فصائل المعارضة السورية المدعومة من أنقرة أكثر من 1.5 مليون شجرة منذ آذار/مارس 2018، بينها 280 ألف شجرة زيتون، يزيد عمر بعضها على 60 سنة. لكن يبقى الرقم الرسمي للأشجار المقتلعة مجهولاً.
وفي 12 نيسان/أبريل 2023، قالت تقريرٌ صادر عن منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” إن القطع الجائر حاصل في 114 موقعاً بمنطقة عفرين، وقد تضرر 57 موقعاً بشكل كبير إذ قُطعت أشجاره بشكل شبه تام، فيما تضرر 42 موقعاً بشكل متوسط، و15 موقعاً بشكل جزئي.
وكان سكان وناشطون في شمال غربي سوريا قد تداولوا في أيلول/سبتمبر 2022 صوراً ومقاطع مصورة تظهر آثار التحطيب الجائر، وتحوّل الأحراش المحيطة ببحيرة ميدانكي في ناحية شرا بريف عفرين إلى منطقة شبه صحراوية.
جدل حاد
أثار هذا الاعتداء على الثروة الحرجية في عفرين وجوارها جدلًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد أدانته المنظمات الحقوقية واصفة ما يجري بأنه “سلوك مقصود”، الهدف منه بناء المساكن العشوائية مكان الأشجار المقطوعة، “تمامًا كما حصل في الأحراج بنواحي جنديرس وشران وراجو، إضافة إلى مركز عفرين، حيث بنيت المساكن في حرج المحمودية المطل على المدينة بعد اقتلاع أشجاره”، بحسب ما يقول ناشطون في المنطقة، إذ يتهمون عناصر “الجيش الوطني” بتقصّد تصحير المنطقة.
ويذكر أن “الجيش الوطني” قوَّة عسكريَّة تتحدر من الجيش السوري الحر، أعادت تركيا تنظيمها منذ 30 أيار/مايو 2017، هو هيكل المعارضة السورية المسلحة غير الرسمية. وأبرز فصائله في عفرين “فرقة السلطان مراد”، و”فرقة السلطان سليمان شاه” المعروفة باسم “العمشات”، وفرقة الحمزة التي يعرف عناصرها باسم “الحمزات”.
وفي منتصف آب/أغسطس الفائت، فرضت الخزانة الأميركية عقوبات على “فرقة السلطان سليمان شاه” (العمشات)، وعلى مسؤولين في “فرقة الحمزة”، بينهم محمد حسين الجاسم (أبو عمشة) وأخوه وليد الجاسم، وقائد الفرقة سيف بولاد (أبو بكر)، لتورطهم في “انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان في منطقة عفرين”.
وبذلك، تضاف الانتهاكات ضد الثروة الحرجية إلى سجل فصائل “الجيش الوطني” منذ سيطرتها على عفرين منتصف آذار/مارس 2018، تزامنًا مع عمليات تغيير ديموغرافي تقوده تركيا، وفقًا لعشرات التقارير الحقوقية والصحفية.
سلطة كاملة
يعترف مصدر عسكري في أحد فصائل “الجيش الوطني” بما يجري في أحراج عفرين، ويقول لـ”963+” إن تأجير الأحراش لا يقتصر على هذه المنطقة، “إنما يتم في مناطق سورية عدة، لا سيما في نواحي جنديرس ومعبطلي وشران”، وهي مناطق واقعة ضمن نفوذ فصائل ’السلطان سليمان شاه‘ و’سمرقند‘ و’السلطان مراد‘.
ويقول عامل في ورشة خاصة لقطع الأشجار من الأحراج والحقول الزراعية إن لواء “سمرقند” المدعوم من تركيا يؤجر الأحراش في ناحية جنديرس، ولا سيما شمال بلدة كفرصفرة، “لتجار مقربين منه مقابل مبالغ كبيرة، تتجاوز أحيانًا 10 دولارات أميركية للشجرة الواحدة، فيتراوح بدل الهكتار الواحد بين 2500 و5000 دولار أميركي، بحسب عدد الأشجار وجودتها”.
وبحسبه، تتبع الفصائل المدعومة من تركيا أسلوب التأجير بعدما كانت تنفذ عمليات قطع الأشجار وبيعها بنفسها، محاولة بذلك التهرب من عيون الإعلام والمطالبة بالمسائلة. فبسبب الصخب الإعلامي الذي أثارته الانتقادات التي ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي بعد عمليات التحطيب الكبيرة التي شهدتها عفرين في العامين الأخيرين، أفاد العامل نفسه بأن الفصائل المسلحة منعت السكان من قطع الأشجار، خصوصًا في الأحراج، لتحتكر عناصرها عملية القطع والبيع، “فلهم السلطة الكاملة في قطع الأشجار وبيعها في الأسواق”، كما يقول لموقع “963+”.
يعمل هذا الثلاثيني مع خمسة آخرين في ورشة يديرها “أبو الهدى الحلبي” الذي ينحدر من بلدة عنجارة غرب حلب. والحلبي هذا تاجر كبير في المنطقة ومقرب جدًا من الفصائل الموالية لتركيا، وتحديدًا لواء “سمرقند” وفرقة “السلطان سليمان شاه”. وقد استأجرت هذه الورشة منذ بداية الشتاء الماضي خمسة أحراج شمال بلدة كفر صفرة بناحية جنديرس من لواء “سمرقند” الذي يحتكر المنطقة ويمنع الدخول إليها إلا بموجب أمر مهمة خاص يصدره حاجز عسكري على مدخل البلدة الشرقي. ويقول العامل الذي رفض البوح باسمه: “تجاوز عدد الأشجار المقطوعة من الأحراج الخمسة 4500 شجرة، قطعت قطعًا صغيرة فورًا، ونقلت إلى أسواق عفرين وإدلب من خلال معبر الغزاوية الذي يسمح بمرور الحطب إلى إدلب، مقابل رسم يتراوح بين 10 دولارات و20 دولارًا للحمولة الواحدة”.
حطبٌ في إدلب
يقول مصدر خاص لموقع “963+” إن السوق في إدلب يعتمد على الحطب الآتي من مناطق شمال حلب بشكل عام، ومن عفرين بشكل خاص، بنسبة 60 إلى 70 في المئة، لجودتها العالية وأسعارها. ويتراوح سعر طن الحطب في إدلب بين 120 و160 دولارًا، بحسب نوعية الحطب وجودته، في حين لا يتجاوز سعر الطن في عفرين 100 دولار.
ويوضح المصدر نفسه، وهو صاحب مركز كبير لبيع الحطب في مدينة الدانا شمال إدلب في شمال غرب سوريا، أن أنواع الحطب المتوافرة في إدلب تقتصر على أشجار الزيتون، إلى جانب أنواع أخرى مثل السرو والسنديان، وهذه قليلة جدًا وأسعارها مرتفعة، لأن هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا)، ذراع تنظيم “القاعدة” في سوريا والمصنفة تنظيمٍاً “إرهابياً” لدى الولايات المتحدة وتركيا والاتحاد الأوروبي، تمنع القطع الجائر في إدلب.
ويتعامل مصدرنا نفسه مع ثلاثة تجار يوردون له الحطب من عفرين بأسعار مختلفة، “ونشهد أحيانًا منافسة حادة بينهم، حيث نشتري الطن من حطب الصنوبر بسعر 90 دولارًا أميركيًا، لنبيعه في إدلب بـ 120 أو 130 دولارًا، وهذه أرباح عالية لم يكن تجار الحطب يحققونها في السنوات الماضية”، كما يقول.
“هيومن رايتس” تصف التواجد التركي في سوريا بالاحتلال وتتهم مسؤوليها بالتورط بجرائم حرب
تصحير متعمّد
تصل المساحات الحرجية في عفرين، بين طبيعية واصطناعية، إلى 49 ألف هكتار، تصحّر منها نحو 21 ألف هكتار، قطع منها نحو 13 مليون شجرة بشكل متعمد، وفقًا للإحصائيات الزراعية. وبذلك، تكون عفرين قد فقدت نحو 43 في المئة من ثروتها الطبيعية.
وفي 13 و14 آذار/مارس الماضي، نفذت مؤسسات ومنظمات في شمال غربي سوريا، بالتعاون مع “المجلس المحليّ في مدينتي أعزاز وعفرين” حملة تشجير تحت شعار “غرسة لأجل سوريا”، الهدف منها مواجهة التحديات البيئيّة وتداعيات التغيّر المناخيّ في المنطقة والمساهمة في مكافحة التصحر والجفاف، وإعادة الغطاء النباتيّ للمناطق التي تأثرت بالاستخدام المفرط للأشجار في أغراض التدفئة والتجارة.
يقلل إبراهيم شيخو، الناطق الرسمي بلسان منظمة حقوق الإنسان في عفرين، من أهمية هذه الحملة، “التي أتت بعد أيام قليلة من قطع مسلحين تابعين لفصائل مدعومة من أنقرة 117 شجرة زيتون و5 أشجار جوز و7 أشجار لوز في ريف عفرين”.
ويضع شيخو قطع الأشجار “في إطار الانتهاك الممنهج لحقوق عفرين وسكانها الأصليين”، بما يتجاوز الحاجة إلى التدفئة والتجارة. ويقول لموقع “963+” إن هذه العمليات “بدأت منذ الأيام الأولى للتوغل التركي في المنطقة وحتى الآن، وهدف منفذوها إلى إنشاء مشاريع استيطانية”.
البيئة المسمومة
يلفت شيخو إلى أن قطع الأشجار “يضر باقتصاد المنطقة ونظامها البيئي، حيث تشكل الأشجار المثمرة وتحديداً الزيتون مصدر دخل أساسي لسكان منطقة عفرين بنسبة 70 في المئة”. فمنطقة عفرين كانت معروفة بنوع نادر من شجر البلوط، يُعرف بالبلوط الروماني، “وكانت أشجاره قليلة، يقدر عددها بالعشرات فقط، فقطعوها وباعوها للتدفئة، غير عابئين بانقراض هذا البلوط النادر، ولا بتبديد ثروة نباتية قد لا تستطيع الأجيال المقبلة أن تنعم بها أبداً”.
إلى ذلك، لا مفرّ من دق ناقوس الخطر البيئي، بحسب شيخو، لأن هذا القطع الجائر يؤثر سلباً في حياة الناس، “إذ يحرمهم الهواء النقي ويعرقل مساعي الحد من التغير المناخي”، فشجرة واحدة تستطيع امتصاص نحو 150 كيلوغراماً من غاز ثاني أوكسيد الكربون سنوياً.
ويضيف: “لا يدري هؤلاء الحطابون ماذا يفعلون. فإزالة الأحراج تضر بالتوازن الطبيعي والتنوع الحيوي والمجتمعات المقيمة بالمنطقة، وتهدد بعض الكائنات الحية بالانقراض.. أفلا يكفينا ما فعلته الحرب بنا؟”.