“إنتِ هيك حطيتي إيدك عالجرح”، يقول أبو أحمد، وهو لاجئ سوري يعيش في منطقة المنية بشمال لبنان، في معرض وصف تجربته مع دفن أحد أقربائه من اللاجئين.
يقول الرجل لـ”963+” إن قريبته المتوفاة كانت تسكن في منطقة عمشيت شمال العاصمة اللبنانية بيروت، وتوفيت ليلة عيد الفطر، “فكانت إجراءات دفنها مرهقة جداً”. يكمل الرجل الذي يسكن في شمال لبنان قائلاً إنه وأقاربه واجهوا مشقّة في نقل قريبتهم المتوفاة من المنطقة التي كانت تقطنها إلى طرابلس بشمال لبنان لدفنها في مقبرة “الغرباء”، فحيث كانت تسكن، “لم تخصص فيها أرض لدفن الموتى من اللاجئين السوريين”.
500 دولار وأكثر
يقول مسؤول في مقبرة الغرباء بطرابلس إن تكلفة حفر قبر فيها يكلف نحو 200 دولار أميركي. ويغطي هذا المبلغ كلفة اليد العاملة والمشطاح والشاهد، لكنه لا يشمل الغسل ولا التكفين. ويضيف: “إضافة الغسل والتكفين يوصل المبلغ إلى 350 دولاراً، ويمكن أن تتجاوز التكلفة الإجمالية 500 دولار إن كان الجثمان آتياً من أماكن بعيدة خارج طرابلس، فنزيد أجرة سيارة نقل الموتى، وهي لا تقل عن 100 دولار”.
ويؤيد أبو أحمد هذا الكلام، فقد كلّفه نقل جثمان قريبته في سيارة نقل الموتى إلى طرابلس 150 دولاراً أميركياً، مؤكداً أن هذه المبالغ كبيرة جداً، “لا يقوى على دفعها معظم اللاجئين”.
في عكار، يقول أحمد المحميد، وهو ناشط سوري ومتابعٌ لشؤون اللاجئين في لبنان، لـ”963+” إن تكلفة حفر القبر والمشطاح وغيره من التكاليف، “تبلغ نحو 55 دولاراً، فيما يتراوح سعر الغسل والتكفين بين 150 دولاراً و200 دولار”.
مسألة قديمة
ليست صعوبة دفن الموتى من اللاجئين السوريين في لبنان بمسألة جديدة، إنما تعود إلى تاريخ تدفق اللاجئين إليه، لكنها تزايدت اليوم بفعل الأزمات الاقتصادية التي يمر بها البلد. ويواجه اللاجئ حتى اليوم صعوبة في إيجاد قبر لدفن المتوفى، إذ يمنع بعض البلديات دفن اللاجئ المتوفى في مشاعاتها، فيما كانت تسمح بلديات أخرى بدفن عدد محدد. إضافة إلى ذلك، كان الكثير من أصحاب الأراضي يرفضون تخصيص أراض مجاورة لأراضيهم لدفن المتوفين من اللاجئين، إلى أن تم شراء عقارات في عكار (أقصى شمال لبنان) والبقاع (شرق لبنان) خصصت لهذا الغرض، بمبادرات فردية قام بها اللاجئون أنفسهم، وساهمت فيها منظمات دولية.
أما بالنسبة إلى اللاجئين الذين يموتون بعيداً عن المناطق “المسموح” فيها دفن الموتى من اللاجئين، فيتحمل ذووهم عناء نقلهم إلى المناطق المخصصة للدفن، إضافة إلى تكاليف أخرى باتت مرتفعة جداً. فالأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي يمر بها لبنان، طالت كل شيء، حتى الموتى.
فعلى سبيل المثال، ابتلي اللاجئ السوري الناشط سليمان الحسن، المستقر في البقاع اللبناني، بوفاة ابنة شقيقته في بيروت قبل نحو خمسة أشهر، فلم تستطع دفنها في أي مقبرة هناك، واضطرت إلى نقلها إلى البقاع لتوارى الثرى في مقبرة العمرية، وهذا ما اعتبره الحسن “مشقّة كبيرة”. فالمسافة بين بيروت والبقاع ليست قصيرة، إذ تستغرق نحو الساعة والنصف، وربما أكثر في ساعات الذروة.
بدوره، يؤكد المحميد المشقة في نقل المتوفين من المناطق اللبنانية المختلفة إلى عكار، خصوصاً في ظل الازدحام الشديد على الطرقات.
مبادرات فردية
المحميد هو أحد أصحاب مبادرة شراء عقار في عكار لدفن الموتى من اللاجئين. يقول إن هذه المبادرة ولدت بعد امتناع رئيس البلدية التي يعيش ضمن نطاقها السماح بدفن لاجئة متوفاة نقلها ذووها من بيروت لدفنها، “فقرروا وضع الجثمان أمام باب منزل رئيس البلدية، ما دفعه إلى القبول بدفنها في مقبرة داخل نطاق أرض البلدية”.
ويشير المحميد إلى أنه منذ بداية الحرب في سوريا وحتى عام 2016، واجه اللاجئون صعوبات كثيرة لدفن موتاهم، “إذ لا يجد اللاجئ الذي يتوفى أحد أقربائه وقتاً ليبكيه أو يحزن عليه، فيجب أن يفكر أين يجد قبراً لائقاً”. ويضيف: “بعد معاناة طويلة، وبفضل مبادرات فردية، استطاع ناشطون سوريون في لبنان شراء عقار في منطقة شيخ حميرين في عكار المحاذية للحدود اللبنانية – السورية، ووقفوه لدفن الموتى من اللاجئين السوريين”.
وبعد عامين على شراء هذا العقار، تعاونت جهات محلية مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لشراء عقار آخر للغرض نفسه في منطقة تل معيان في عكار أيضاً. وفي ثرى هاتين المقبرتين توارى جثامين المتوفين من اللاجئين من مختلف الأراضي اللبنانية.
ألواح ثلج
“لهلق عليّ دين 700 دولار، تكلفة العزاء ومني عارف كيف أوفيهم”. هكذا يشكو اللاجئ السوري رضى حمود المستقر في عكار حاله، بعدما واجه صعوبات جمة في تأمين تكاليف دفن ابن أخيه المتوفى قبل شهرين بعد ساعات قليلة من دخوله إلى المستشفى الحكومي هناك. يقول حمود لـ”963+”: “لم أستطع حفظ جثمانه في براد المستشفى بانتظار تأمين تكلفة دفنه، لأن ذلك يعني المزيد من التكاليف، فتركته مسجى في المنزل”.
تكرر هذا الأمر أكثر من مرة. ويقول المحميد إن حفظ جثمان المتوفى في براد المستشفى يكلف 100 دولار في الليلة الواحدة، “وهذه تكلفة تفوق قدرات اللاجئ السوري في لبنان”. وبالتالي، يستعيض أهل الميت عن براد المستشفى بإحاطة جثمانه بقوالب الثلج، لأنها أقل تكلفةً.
وبحسب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، يرزح أكثر من 90 في المئة من اللاجئين السوريين تحت خط الفقر، وهي نسبة مرشحة للازدياد خاصة مع تراجع المساعدات التي كانت تقدمها المفوضية للاجئين في لبنان، إضافة إلى تزايد التضييق والحملات العنصرية ضدهم، وهو ما يؤثر بشكل أساسي على قدرتهم على العمل، ما يزيد من معاناتهم وصعوبة تأمين لقمة العيش.