في زاويةٍ مكتظةٍ بزخم الثقافة وأصواتِ القُرّاء، وقف الكاتبُ السوري آلجي حسين بتاريخ 28/4/2025 ليوقع كتابه الجديد بعنوان “ألغام غرفة الأخبار” الصادر عن “دار تعلّم للنشر والتوزيع” في الإمارات، وقع كتابه بيدٍ تحملُ قصصاً أثقلَ من رصاصة، مع ابتسامةٍ تخفي وراءَها سنواتٍ من المواجهة مع ألغام الكلمة.
كان المشهدُ في معرض أبو ظبي الدولي للكتاب بدورته الرابعة والثلاثين أشبهَ بلوحةٍ تختزلُ تناقُضاتِ المهنة؛ فهُناك وقع حسين على غلاف كتابٍ يفضحُ “انفجارات” المهنة الداخلية، وهُناك أيضاً أخذ يلتقطُ أنفاسَهُ بين جمهورٍ يبحثُ عن شظايا الحقيقة في زمنِ التضليل.
حسين، الصحافي الخبير الذي عايشَ زلازلَ الحروب السورية وعواصفَ التحوُّلات الإعلامية، لم يأتِ إلى معرض أبو ظبي للكتاب كمجردَ كاتبٍ، بل حاملاً “مِظلة إنقاذ” لمهنةٍ تترنّحُ بين سرعةِ الأخبار وثِقلِ المسؤولية.
كتابُه الجديد ليس مجردَ سردٍ لتجاربَ شخصية، بل هو “دليل نجاتِك من انهيار أخلاقي أو انفجار مهني”، كما يصفهُ أحد النقاد.
بين طيات “ألغام غرفة الأخبار”، يُطلُّ حسينُ قائلاً: “إن محرر الأخبار عليه السير في “حقل ألغام”، أو حتى في منجم فحم؛ “فقد ينفجر بك لغم في أي لحظة”.
في هذا الحوار الحصري في العدد العاشر من صحيفة “963+”، نغوصُ مع حسين في دهاليزِ كتابه الذي يُشبهُ مذكراتِ جنديٍ نجا من حقلِ ألغام، نستنطقُهُ عن أسئلةِ الموتِ والحياة في عالمِ الصحافة، وعن كيفَ تُحوِّلُ “القوة الناعمة” للكلمةِ ساحاتِ الحربِ إلى منصاتٍ للوعي.
اقرأ أيضاً: اتحاد الكتّاب العرب ينعى الأديبة السورية ماري رشو – 963+
-بداية مبارك توقيع كتابك “ألغام غرفة الأخبار”، ما الذي ألهمك لكتابة كتاب “ألغام غرفة الأخبار”؟ وما الرسالة الأساسية التي تريد إيصالها من خلاله؟
– إن مجال الإعلام “مظلوم”، إلى حد كبير، من جانب تسليط الضوء على خفاياه وخباياه، إذ تلمستُ حاجة شخصية لديّ لأعبّر عن بعض ما يدور في خلدي كل يوم بين ثنايا الأخبار وتطلعات المحررين عبر نافذة الأحدث الجارية في المنطقة، ناقلاً همومنا اليومية إلى مَن لا يعرفها، أو مَن يعتقد أن هذه المهنة لا تخلو من مصاعب. لذا، ما أود إرساله من هذا الكتاب هو أن تحقق كلماته في ذهن القارئ عناصر المتعة والدهشة والإقناع، في رحلة طويلة من المفاجآت في بلاط “السلطة الرابعة”.
– وصفك لاتخاذ قرار النشر بأنه “مصيري” و”لا يقل رهبة عن إطلاق صاروخ نووي”.. هل يمكن أن تشاركنا مثالاً عملياً من تجربتك واجهت فيه هذه المعضلة الأخلاقية؟
“رصاصة هتلر تنفذ إلى القلب مباشرة، ولم يعد وزير دعايته يوزف غوبلز، من أهم الدعاة، بل صارت الرصاصة تبحث عن دريئتها”.. هي فعلاً مسؤولية أخلاقية كبيرة، فضلاً عن أنها مسؤولية اجتماعية ومهنية.
في الإعلام وعالم الأخبار، أضع نفسي أمام اختبار في أي خبر قد لا ينظر إليه محرر آخر بنفس الأهمية، وأعتقد أن الملفات الحساسة التي تهمّ الموقع، أو حسب سياسة التحرير، هي من القصص التي أضع لها اعتباراً كبيراً وتشكل معضلة أخلاقية كبيرة، وهذا يتحقق بطبيعة الحال في المواضيع السياسية حسب كل دولة، ولا بد هنا من معرفة التشابكات ولغة المصالح بين الدول، وانعكاس ذلك على سياسة الوسيلة الإعلامية، مع العلم أن المحرر المسؤول ينظر لحساسية الأخبار السياسية بنفس حساسية الأخبار المنوعة التي قد تؤثر على نفسية أحد ما.
– في فصل “الكلمة رصاصة في حقل ألغام”، تذكر أن الكلمة قد تكون خلاصاً أو خراباً.. كيف ترسم الحد الفاصل بين حرية التعبير والمسؤولية المهنية في ظل الأزمات الإنسانية؟
الضمير الصحفي (الإنساني) حين يكون حياً، سنرى وقتها الحد مرسوماً ولكن يكون هلامياً ولا يراه غير المهتم.
أنظر إلى الكلمة كرصاصة بتأثيرها الهائل، ففي الوقت الذي تغير فيه القنبلة النووية معالم الأرض وتدمر البنية التحتية، تجتهد الأخبار أو “زر نشر الأخبار” في تغيير المعارف ثم الاتجاهات فالسلوك، وبناء عليه، الإعلام يتحمل مسؤولية مهنية كبيرة تجاه المجتمع، مع توضيح أنه ليس مصلحاً اجتماعياً وليس من مهامه تقويم السلوك المجتمعي.
– تتحدث عن “اللذة والأذى” في مهنة الإعلام.. كيف تحافظ على توازنك النفسي وسط تغطية أحداث العنف والصراعات بشكل يومي؟
الموضوع بحاجة إلى تدريب، مثله مثل البرمجة اللغوية العصبية، مطلوب من المحرر أن يعتاد على المصاعب التي لن تنتهي بطبيعة الحال، لأن الاستثناء، برأيي، هو الراحة. الصحفي دائماً يعيش في قلق (أفترض أنه إيجابي)، وإذا لم يسخر المحرر هذا القلق ويحوله إلى عبر ودروس سيبقى صاحبه في مرحلة قلق سلبي طوال فترة عمله.
لذلك، التوازن هو الأساس في كل شيء في حياتنا، بدءاً من النظرة إلى الحياة وصولاً إلى محاولة العيش بأسلوب حياة صحية.
اقرأ أيضاً: مهرجان القاهرة السينمائي يفتح أبوابه أمام صنّاع السينما العربية – 963+
– هل يمكنك التحدث عن أهمية اختيار الكلمات وتوقيت نشر الأخبار ودورها في التأثير الإعلامي على الجمهور؟
مع الإتقان شبه التام لقواعد اللغة التي نعمل بها ونحرر من خلالها الأخبار، لابد من حُسن اختيار الكلمات، باعتبار أن اللغة العربية من أوسع اللغات العالمية انتشاراً بالمفردات والاشتقاقات، وفي الإعلام، يجد المحرر الصحفي ضالته في اختيار ما يناسبه، ولكنني لا أشجع أخذ الكلمات لأجل الأخذ فقط؛ يعني ليس من المعقول أن ننوّع في الكلمات لأننا نريد أن ننوع فقط، لأن لكل كلمة تداعيات مختلفة. مثال: أوضح، قال، أكد، أشار، نوه.. إلخ. يحب إتقان معانيها أولاً ثم زرعها في ثنايا أخبارنا، وليس مجرد تحرير عشوائي.
– كصحفي سوري عايش الحروب وتداعياتها، كيف أثرت تجربتك الشخصية في سوريا على رؤيتك لدور الإعلام في تغطية الأزمات؟
العمل المكتبي وحده لا يُظهر ولا يصقل مهارات الصحفي، بل لابد، بين الفينة والأخرى، أن يلجأ الصحفي للميدان والتضحية بجوّ غرف الأخبار المكيف، فهذا ما سيعطي لكلماته معنى.
المحرر الذي يحرر أخباراً يومية عن الملاجئ والحروب والقتل والجثث، كم تتوقع أن تتغير شخصيته حين يسافر إلى حيث مصنع الأخبار نفسه! هذا ما حدث معي حين معايشتي لآلام الإيزيديين في العراق وسوريا، وكذلك البقاء في الرقة 22 يوماً ومعايشة أهوال تنظيم “داعش” الإرهابي، وكذلك الأمر في الصومال وتتبع إرهاب جماعة “القاعدة”.. وسواها.
– قارنتَ بين تأثير الأخبار والقوة الناعمة.. هل تعتقد أن الإعلام العربي استطاع توظيف هذه القوة بشكل فعّال في تشكيل الوعي العام؟
في فصل “القوة الناعمة للأخبار” من الكتاب، أحاول كشف خطورة العملية التثقيفية للأخبار، كونها تخاطب الوعي البشري بدون وسيط، بين مشاهد الرعب والدمار والإلغاء في العالم. أعتقد أن الإعلام العربي لا يزال محاصراً بقوانين الإعلام “من حيث جمودها”، والعديد من الخطط يقف حاجزاً في وجه الإعلامي الإنسان في توصيل رسالته الإعلامية إلى أكبر شريحة ممكنة من الناس. وليس هذا فقط ما يقيّد إبداعه ويجعله موظفاً بيروقراطياً يجلس خلف مكتبه دون رؤية الحقيقة نفسها، بل فن إدارة الأعمال الذي يتطور كثيراً في هذه الآونة.
– تتناول في الكتاب تحولات الإعلام من التقليدي إلى الرقمي.. كيف ترى مستقبل غرف الأخبار في عصر التكنولوجيا وسرعة تداول المعلومات؟
مع دخول الذكاء الاصطناعي، بدأ الرعب يدبّ في أوصال الكثير من العاملين في الإعلام، إلا أنني أرى العكس تماماً؛ فالذكاء الاصطناعي أداة نطوّعها كما نشاء، لأن الإبداع والخيال من مهمة الإنسان، وكذلك الروح (النَفَس). وعلى سيرة المستقبل، أقول إن المكان في الأخبار يذكرني بالماضي وأنا أعيش الحاضر، ثم ينقلني إلى المستقبل بلمحة خاطفة، إلى ذلك الخيط الشفاف بين الحجارة التي تربط هذا البناء المتماسك. وها هو شاعر داغستان، رسول حمزاتوف، يحذر: “إن أطلقت رصاص مسدسك على ماضيك، سيطلق الحاضر نار مدفعه على مستقبلك”. لذا، “أرجو ولست أتمنى؛ لأن الرجاء للمستقبل القريب، والتمني للمستقبل البعيد”، أن يكون مستقبل غرف الأخبار مشرقاً.
– كمدرب إعلامي، ما المهارات التي تركز عليها لمساعدة الصحفيين على تجاوز تحديات “حقول الألغام” التي تصفها؟
مؤخراً، تفاعلت جيداً في ورشة تدريبية، وقتها قال مدير الجلسة: “عليكم بثلاثة أشياء هامة في كتابة تقاريركم الصحفية؛ الخيال، النَفَس، المفاجأة”.. هذه الشروط الثلاثة، بطبيعة الحال، تشبه كثيراً ما ذكرته أعلاه، فمن الضروري إبهار مَن هم أمامك أو مَن يسعون لقراءة موادك، بالحجة وبعض المتعة. أرى أن أجمل ما يمكن أن نتجاوز به تحديات “حقول الألغام” هو الحرص والصبر ثم الصبر، وتحقيق معادلة السرعة والنشر.
– في فصل “النداء الأخير للمحررين”، توصي بالاختصار دون إخلال بالمعنى.. ما النصائح العملية التي تقدمها للصحفيين الجدد لتحقيق هذه المعادلة الصعبة؟
حتى نكون مقنعين، كمحررين صحفيين، أوصي المحررين، ونحن في عصر السرعة وقلة الوقت لدى الملتقي لقراءة المواد الصحفية المكتوبة كاملة، بتعزيز مهارة الإيجاز أو الاختصار أو البلاغة، دون إخلال باللغة أو المعنى أو التفاصيل؛ استخدموا “اللغة الإعلامية البيضاء” البسيطة الفصيحة من دون أخطاء أو بلاغة فجة، وصقلوا مواهبكم بشكل كبير. و”إذا رغبت في التفاؤل وفهم الحياة، كفَّ عن تصديق ما يقوله الآخرون وما يكتبون، لاحظ واكتشف بنفسك”، قالها المسرحي الروسي أنطون تشيخوف في “دفاتر سرية”.
– كيف ترى مستقبل الإعلام في سوريا في ظل التحديات الراهنة.
سوريا دولة خارجة من حرب طاحنة، وآمل ألا تدخل حرباً طائفية أخرى أكثر فتكاً.
الإعلام ليس مرآة للواقع فقط، بقدر ما هو سلطة يجب أن تتعزز في المجتمع أكثر فأكثر، والإعلام في سوريا يحتاج إلى نهضة شاملة، وضمير حي، وأخلاق عالية، وجرأة غير مسبوقة، وحرية مسؤولة.. وكفى.
اقرأ أيضاً: إعادة إعمار القطاع الثقافي في سوريا: استثمار في الهوية وجسر نحو المستقبل
بعد السير الحذر في “حقل ألغام” آلجي حسين، لم نخرجْ ببطارية ألغامٍ مكتشفةٍ فحسب، بل بخرائطَ جديدةٍ لعبورِ هذا الحقل المتفجِّر.
غادرَ حسينُ المقعدَ مع انتهاء حوارنا الشائق معه، وكأنه يتركُ وراءه كتابًا مفتوحًا عنوانُه القادم: “كيف تبقى حيًّا وأنت تحفرُ في جثث الأخبار؟“
الجدير ذكره أن آلجي حسين صحافي وكاتب ومدرب إعلامي سوري من أصل كردي، يحمل الإقامة الذهبية في الإمارات، عن فئة “النوابغ من المواهب”، وهو عضو فاعل في منظمات صحفية عدة، وتدرج في مناصب إعلامية عدة، منها مراسل صحفي، محرر، محرر أول، سكرتير التحرير، رئيس قسم المراسلين، رئيس قسم الثقافة، رئيس قسم المجتمع، رئيس قسم السياسة، نائب مدير التحرير، مدير التحرير، مستشار إعلامي.. إلخ.
نال مؤلف الكتاب عشرات التكريمات والجوائز داخل الإمارات وخارجها، وخضع للعديد من الدورات التدريبية الإعلامية، وسافر في مهمات إعلامية في مناطق ساخنة بالأحداث في العالم، كالعراق وسوريا والصومال، وتحصل على الماجستير والبكالوريوس في الإعلام، ويجيد التحدث باللغات الكردية والعربية والإنكليزية.
نشرت هذه المادة في العدد العاشر من صحيفة “963+” الأسبوعية والصادرة يوم الجمعة 9 أيار /مايو 2025.
لتحميل كامل العدد العاشر من الصحيفة النقر هنا: الصحيفة – 963+