سيكون الاتفاق بين الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع وقائد “قوات سوريا الديموقراطية” الكردية مظلوم عبدي (10 آذار/ مارس 2025) الوثيقة الأولى التي تدشّن عهد “سوريا الجديدة” وتقلب صفحة أخرى في سجل “ما بعد النظام الأسدي”. إذ دلّت الى تغيير حقيقي في العقلية السياسية لطرفين مستعدّين لقبول أحدهما الآخر، وحملت مؤشّراً الى المكوّنات السورية كافة بأن الواقع الذي فرضته الحرب يعزّز التوجه الى تبنّي اللامركزية الادارية في الدستور المقبل. ولا يقلّ أهمية أن يكشف مصدر كردي عن وجود “رعاية أميركية” للاتفاق، وقبل ذلك كان هناك كلام لمندوب روسيا الدائم في الأمم المتحدة عن “عودة التنسيق الأميركي- الروسي في شأن سوريا”، والأكيد أن تركيا شاركت في المشاورات كونها داعمة للسلطات الجديدة في دمشق ومعنية بالشأن الكردي.
للمرة الأولى يخطو الحكم السوري نحو حلّ تاريخي داخلي بينه وبين الكرد، مصححاً أداء سلطوياً ترسخ مع الحكم البعثي بنسخته الأسدية الاستبدادية. في العهود التي تلت استقلال سوريا كان الكرد مشاركين في الحكم، وكانت لهم مكانتهم في الحكومات والمشهد السياسي، قبل أن يبدأ تهميشهم وتجاهل حقوقهم وخصوصياتهم وهويتهم الى أن بلغ الظلم الذي تعرّضوا له حدّ انكار وجودهم وحرمانهم من حقوق المواطنة والتضييق عليهم في كل تفاصيل حياتهم. ورغم أن المفاوضات لن تكون سهلة، وأن أوضاع الكرد لن تستقيم سريعاً بفعل الاتفاق الجديد، إلا أنه يؤسس لمسار تغييري يُفترض أن يتعاون فيه الطرفان لتحقيق مصالحهما.
ومع الإعلان عن التوصّل الى وثيقة تفاهم بين الحكومة السورية ومحافظة السويداء، بعد الاتفاق مع “قسد”، تكون ثمة “عدوى” بدأت تفعل فعلها. ويمكن التوقّع بأن تفاهمات مماثلة ستتبع مع مناطق عدة، ذاك أن الواقع الدولي والإقليمي لا يدفع في اتجاه إعادة اشعال الحرب، كما أن الوضع السياسي الداخلي والضغوط الاقتصادية تستدعي التهدئة وإعطاء التغيير الذي بدأ بسقوط النظام السابق فرصة كي يعيد ترتيب البيت السوري، لأن الدولة التي خلّفها ذلك النظام منهارة ومفلسة ولا بدّ من مساهمة الجميع في انهاضها من الصفر. وقد أبدت الجهات الدولية والعربية كافة استعداداً لتوفير مثل هذه الفرصة للحكم الجديد، رغم مآخذ كثيرة على مكوّناته، حتى أنها لم تعتبر تجاوزات أحداث الساحل نقطة تحوّل في تقييمها لهذا الحكم، وإلّا لكانت أرجأت توقيع اتفاق الشرع- عبدي، أو ألغت تفاهم دمشق- السويداء.
قوبل الاتفاق بين الرئيس الانتقالي وقائد “قسد” باستحسان وترحيب في الداخل ولدى أكراد سوريا والعراق، كذلك في العواصم العربية والدولية. إذ شكّل خطوة جريئة ومتقدّمة، وتضمن إشارات الى مراجعات أجراها الطرفان للاعتراف بواقع سوريا بعد الحرب والإقدام على تنازلات متبادلة، بدليل أن ما لم تتوصّل اليه حوارات النظام السابق مع الاكراد على مدى أعوام، رغم الالحاح الروسي وعدم الممانعة الأميركية، انجزته الإدارة الجديدة في أقل من ثلاثة أشهر. هناك ملامح لمفهوم مختلف للدولة ولبسط سيطرتها، تضاف الى ان سلطة دمشق أظهرت وتواصل اظهار نيات حسنة، فيما سُجّلت صدقية في الانفتاح الكردي على التغيير الذي تشهده سوريا. ورغم أن الاتفاق لم يشرْ الى “حلّ” قوات سوريا الديموقراطية، أو الى القاء سلاحها، إلا أن منطق الانضواء في دولة واحدة سيفرض نفسه في نهاية المطاف، لكن على قاعدة الحوار وبناء الثقة واحترام الحقوق والمصالح.
عدا مضامين اتفاق الشرع- عبدي، تكمن أهميته في أنه رسم أفقاً لإنهاء العداء الذي ترسّخ طوال عقود بين الدولة والكرد، فلا شيء في البنود السبعة يستعصي التوافق عليه، ولا سبب يستدعي التراجع عنها أياً تكن الظروف والعقبات. إذ أن وقف اطلاق النار (البند الثالث)، تحديداً في شمال شرق سوريا، سيتطلّب التزاماً كردياً واضحاً بالنأي عن متطرّفي “حزب العمال الكردستاني” لتبديد ذرائع تركيا لمواصلة التدخّل المسلح ومحاولة الضغط على دمشق في عملية التطبيع مع الكرد. لا شك أن بعضاً من البنود، مثل دمج المؤسسات المدنية والعسكرية أو عودة المهجّرين وتأمين حياتهم (خصوصاً في المناطق التي تهيمن عليها تركيا) سينتظر بتّه انتظام مراحل الانتقال السياسي وإنجاز الدستور الجديد، لكن لن يكون هناك مجال لإضاعة الوقت بل لاستغلاله في تعميق الروابط ومنع أي طرف داخلي أو خارجي من تخريب الإرادة السياسية والروح التصالحية و”البراغماتية الوطنية” غير المسبوقة التي أشاعها الاتفاق.
من الاعتراف بأن الكرد “مجتمع أصيل في الدولة السورية” وفي “ضمان حقه في المواطنة وحقوقه الدستورية كافة”، الى “ضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة في العملية السياسية وكل مؤسسات الدولة”، هناك التزامٌ تاريخي من طرفي الاتفاق بإعادة الاعتبار الى مفهوم “المواطنة” الذي سحقته “آلة القتل” أو رمته في مهانة أقبية السجون الاسدية. كل الدساتير تضع المواطنة في مصاف الأهمية، وليست كل الأنظمة تحترمها في الممارسة، لكن سوريا باتت بعد محنتها الكبرى أمام حتمية اعلاء شأنها فوق كل الاعتبارات. لعل تجربتَيْ الحكام الجدد في دمشق والكرد في الشمال الشرقي مدعوتان ليس الى تبادل التنازلات من أجل العيش المشترك فحسب، بل الى تبادل الخبرات ومزجها في تجربة جديدة تحتاج اليها سوريا للنجاح في رسم مستقبلها واستعادة قوّتها.
مع هذا الاتفاق يرتسم أمل جديد، للأكراد، لكن أيضاً لسوريا. ولم يكن ليكتمل معنىً ومغزىً من دون أن يلحظ “دعم الدولة في مكافحتها لفلول الأسد” وكل “التهديدات لأمن سوريا ووحدتها”، وأن يؤكد “رفض دعوات التقسيم وخطاب الكراهية ومحاولات بث الفتنة بين مكوّنات المجتمع السوري”. فهذان الإقراران ينطويان ضمناً على أن أولوية الجانب الكردي لم تعد الانفصال ولا الاستقلال عن سوريا، لكنه سيدافع عن كيانه الخاص في الاطار السوري، وهذا خيار مختلف عمّا كانت أطراف كردية تدعو اليه مثيرة شكوك السوريين في أن الكرد قد يشكلون قاطرة التقسيم، ولو أدّى ذلك الى تداعيات إقليمية قد لا تخدم مشروعهم. على العكس، يشير الاتفاق مع دمشق الى أن الكرد يرون مصلحتهم المستقبلية ضمن سوريا وفي مساهمتهم في سلامها واستقرارها. أما فلول الأسد فإن الطائفة العلوية لا تُختزل بهم، ولم تعد تعوّل عليهم، لكن من شأن المكوّنات الأخرى أن تبذل كل جهد للحوار مع العلويين الذين يحتاجون الى وقت للخروج من الحال التي رسّخهم فيها النظام ثم تخلّى عنهم.