ما كانت الزراعة في سوريا يوماً قطاعاً منتجاً فحسب، إنما مثلت دائماً عنصراً حيوياً لاستقرارها الاقتصادي والغذائي، فكانت تشكل قبل الحرب أكثر من خمس الناتج المحلي الإجمالي الوطني، وكانت تستثمر لتحقيق الاكتفاء الذاتي من المنتجات الزراعية، وترسيخ الأمن الغذائي للمواطن السوري.
واليوم، وعلى الرغم من تقهقر القطاع الزراعي خلال 13 عاماً من الحرب والمعاناة، وعلى الرغم من إعلان الأمم المتحدة أن 12.9 مليون شخص على الأقل يعانون انعدام الأمن الغذائي في سوريا، لا يتوقف المزارع السوري عن سلوك كل سبيل ممكن ليجوّد محاصيله، من أجل لقمة عيشه أولاً، ومن أجل تعزيز أمنه المجتمعي ثانياً. ومن السبل المتاحة له.. “التطعيم الزراعي”.
أنواعه وأوقاته
يعرّف المهندس الزراعي مازن الهنداوي “التطعيم” بأنه اتحاد جزئين من نبتة واحدة، أو نبتتين مختلفتين لتكوين نبتة بمواصفات جيدة إنتاجياً، “وهذا هو المطلوب”، بحسبه.
يعتمد مزارعو جبل الزاوية في ريف إدلب بشمال غربي سوريا على محاصيل الأشجار المثمرة، وأهمها المحلب أو الكرز البري، والكرز، والزيتون. ويقول الهنداوي لـ “963+” إن هؤلاء المزارعين يطمحون دائماً إلى أن يكون تجويد إنتاجهم، “كي يجدوا له تصريفاً سهلاً ومجدياً”.
ثمة أنواع عدة من “التطعيم”، لكن مزارعي جبل الزاوية “يستخدمون نوعين فقط، التطعيم بالقلم والتطعيم بالورقة، ليطعّموا أشجار اللوز والمحلب والكرز”، بحسب ما يقول المزارع ناجي الأمين (34 عاماً) لـ “963+”. ويرد ذلك إلى طبيعة المنطقة الجبلية.
ويشرح الهنداوي الفرق بين الطريقتين: “التطعيم بالقلم يلائم الأشجار الكبيرة ذات القطر الواسع واللحاء المتخشب، ويتم في نهاية شباط/فبراير وبداية آذار/مارس، أي عندما تكون العصارة النباتية في طور السكون قبل تفتح البراعم، فيما يمارس التطعيم بالورقة للأغصان الفتية من عمر سنتين إلى ثلاث سنوات، ويتم في نيسان/أبريل وأيار/مايو، أي بعد جريان العصارة النباتية”.
ويضيف الهنداوي: “إن أردنا المفاضلة بين التطعيمين، فالتطعيم بالورقة هو الأوسع انتشاراً، وتصل نسبة نجاحه إلى 90 في المئة”، راداً ذلك إلى مهارة المزارع وتطبيقه الشروط المطلوبة كلها.
فما هي هذه الشروط؟ يجيب الهنداوي: “يجب أن تتمتع الشجرة مصدر الطعم بالصحة، وأن يكون الطعم والأصل من عائلة نباتيّة واحدة ليتم التوافق بينهما، وأن يخلو الطعم والأصل من أي مرض حشري، وأن ينمو الأصل والطعم بالسرعة نفسها”. ويشدد الهنداوي على إحكام تغطية الجروح في الأصل والطعم لحماية عملية التطعيم من العوامل المناخية”.
ويتابع الهنداوي: “إن غاب التوافق بين الأصل والطعم فلن يحصل الالتحام بينهما بشكل تام، فيفشل التطعيم”.
عملية دقيقة
للتطعيم طريقة محددة وخطوات متسلسلة، لا يمكن الإخلال بأي خطوة منها كي تنجح المسألة وتؤتي ثمارها. وقد ورث مزارعو المنطقة طرق التطعيم التراثية والقديمة عن أهلهم، وأضافوا إليها بعض اللمسات العصرية.
يقول الأمين: “ورثنا التطعيم عن آبائنا وأجدادنا، وأضفنا إليه ما تعلمناه من علم حديث لنعزز نتائجه”. ويضيف شارحاً: “نبدأ بقص كل أجزاء الشجرة التي نريد تطعيمها ونترك الساق الرئيسي فحسب، ثم نشق بين الفرعين الرئيسيين في الساق بآلة حادة لندسّ الطعم داخل الشق، ثم نقفله ونلفه بالطين كي يلتئم الشق، وبعضهم هنا يستخدمون الإسفلت بدلاً من الطين، وهذه طريقة حديثة”.
ثمة أشجار تحب “التطعيم” وتتقبله، فينجح فيها، “وفي مقدمتها بمنطقة جبل الزاوية الفصيلة اللوزية من شجر اللوز والمشمش والخوخ والدراق والجانرك، والفصيلة الوردية من شجر الكرز والمحلب، والفصيلة التوتية من شجر التين والتوت والجوز والرمان، إلى جانب الحمضيات”، كما يقول الهنداوي.
وسجلت في حماة تجربة “تطعيم” ناجحة، إذ تمكنت الخبرات الزراعية في مديرية الزراعة هناك من تطعيم أقلام الفستق الحلبي الثمري على أشجار البطم الأطلسي، في تجربة زراعية رائدة من شأنها المساهمة في زيادة إنتاج هذا المحصول، وذلك في تموز/يوليو الماضي.
ونسبت وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا)، إلى المهندس أشرف باكير، مدير الزراعة في حماة، تأكيده أنه هذه التجربة هي الأولى، “وقد تم تطعيم أشجار الفستق الحلبي على غراس البطم الأطلسي بمعدل 3000 غرسة”، مضيفاً: “هذه التجربة هي ثمرة جهد وتعاون بين وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي ومكتب الفستق الحلبي، وقد حققت نسبة نجاح عالية”.
أسباب التطعيم وأهميته
يلجأ المزارعون إلى “التطعيم” لإكثار أنواع وأصناف ذات مواصفات جيدة وعالية الإنتاجية، وخالية من الأمراض، لا يمكن إكثارها بالعُقل أو الترقيد أو غيرهما من طرق الإكثار الخضري.
ويوفر التطعيم على مزارعي المنطقة الكثير من العمل والعناية بأشجارهم، ويزيد من غزارة إنتاج الأشجار. يقول المزارع معتز الفضل: “يمكننا التطعيم من الاستفادة من أشجارنا بإنتاجية غزيرة قدر الإمكان، فعلى سبيل المثال هناك أشجار كثيرة غير مثمرة لكنها تنمو بشكل جيد من دون أن تثمر. بالتطعيم يمكننا تحويلها إلى شجرة مثمرة”.
يضيف: “نستخدم التطعيم لقلب نوع الشجرة، فمثلاً نزرع أشجار المحلب، أو الكرز البري، وعند نموها خلال عام أو عامين نقصها ونطعّمها بالكرز الذي نعرفه، فنحصل على شجرة ناضجة بمدة زمنية قصيرة، خصوصاً أن الكرز يحتاج وقتاً أطول كثيراً من المحلب لينمو”.
ويشرح الهنداوي: “المحلب شجرة متساقطة الأوراق، تاجها كروي الشكل كثيف بفروع منفرجة، ويتراوح ارتفاعها بين مترين و10 أمتار، أوراقها خضراء بيضاوية مدببة قليلاً تحمل البراعم الزهرية جانبياً، في فترة ما بين منتصف مارس وأواخر أبريل”.
ويضيف: “يعطي البرعم الزهري عند تفتحه 3 إلى 5 زهرات بيضاء اللون، ثمارها خضراء يتدرج لونها إلى الأحمر ثم الأسود عند النضج، وللبذرة شكل بيضوي خشبي يحيط بنواتها”.
مقاومة الآفات
في السياق نفسه، يقول باكير لـوكالة”سانا” إن اختيار شجرة البطم الأطلسي جاء نظراً إلى أنها من الأشجار البرية “التي تكثر في جبال البلعاس الشرقية والمناطق شبه الجافة، وهي مقاومة للأمراض وللجفاف، وأثبتت قدرتها على احتضان أقلام التطعيم الجديدة ومقاومة أعتى أنواع الآفات التي تصيب أشجار الفستق الحلبي”.
كما تحدث باكير عن ظروف التجربة من تنضيد ثمار البطم الأطلسي من الحزام الأخضر في تلال السلمية تحت درجة برودة منخفضة وبزمن محدد، وزراعتها بداية شهر يناير من العام الماضي، وتقديم الخدمات الزراعية للغراس الوليدة مدة عام كامل، ثم إخضاعها في العام الثاني لتجربة تطعيم الفستق الحلبي من أصناف مختلفة، “حيث حققت نسبة نجاح عالية تجاوزت 50 في المئة، مقارنة بالأصناف الأخرى التي لم يتجاوز نجاحها 30 في المئة”.
ويذكر في هذا الإطار أن وزارة الزراعة في الحكومة السورية حددت في 6 تشرين الأول/أكتوبر الماضي سعر الغرسة المطعمة من التفاح والإجاص والخوخ والدراق واللوز والتوت والمشمش والجارنك بـ 3300 ليرة (23 سنتاً أميركياً)، وسعر غرسة كل من التفاح والاجاص والخوخ والدراق واللوز والمشمش والتوت بكيس، إضافة إلى غراس الحمضيات والكرمة والكرز والكاكي بـ 4000 ليرة (27 سنتاً أميركياً)، والجوز بـ 5000 ليرة (34 سنتاً أميركياً)، و سعر غراس الفستق الحلبي بكيس بـ 11000 ليرة (74 سنتاً أميركياً) ومن دون كيس بـ 10000 ليرة (67 سنتاً أميركياً).