خاص ـ دمشق
تستعد غالبية الأسر السورية عند وصول أبنائها للثالث الثانوي، كمن يستعد لدخول الحرب. والأمر كذلك فعلاً. استنفار مادي ومعنوي يبدأ مباشرة بعد نهاية مرحلة الحادي عشر، وأحياناً كثيرة يبدأ من الحادي عشر الاستعداد للبكالوريا خاصة للطلاب الذين يطمحون للحصول على معدل يؤهلهم لدخول أحد الفروع الجامعية المميزة.
ومما يزيد في سعير هذه “الحرب” هو ارتفاع التكاليف بشكل مروع، حيث أن الخيارات تفرض على الأهل تقديم كل ما يلزم لتجنب إعادة الكرة ثانية، والتمكن من حجز مقعد مناسب في الجامعات الحكومية بعدما أصبحت تكاليف الجامعات الخاصة ضرب من الخيال.
العين على الطب
هذا العام بدأت الامتحانات اليوم، حيث تتكثف الأوقات العصيبة خلال الشهر الامتحاني، الذي سيحدد المصير كما يقول يوسف محمد ولي طالب البكالوريا العلمي يزن، لموقع “963+”.
يضيف محمد، أن “التعليم تحول إلى تجارة، وأصبحت الدروس الخصوصية والمتابعات هي الأساس، والمدارس إضاعة للوقت، وهذا ليس حكراً على طلاب “البكالوريا” بل ينطبق على جميع المراحل الابتدائية”.
وعن التكاليف التي دفعها لهذه المرحلة، قال إنه ككل السوريين يسعى لأن يكون ابنه طبيباً، أو مهندساً في أسوأ الأحوال، ولأن حالته المادية متواضعة، سجل ابنه ضمن مجموعات حيث تصبح التكاليف أقل، ولكن مع هذا دفع ما يقارب المليون ليرة، وهذا رقم كبير جداً بالنسبة له ولظروفه، في حيث هذا المبلغ يصبح تكاليف شهر واحد بالنسبة للعائلات التي تريد دورات بشروط أفضل.
ومن التقاليد الشائعة حالياً أنه بعد انتهاء المنهاج واقتراب الامتحانات تبدأ مرحلة الجلسات الامتحانية، وهنا يتكثف الدفع خلال العام بعدة جلسات، حيث تتراوح ساعة مدرس الرياضيات ما بين 50 إلى 100 ألف ليرة، تبعاً لشهرة المدرس ومدى الطلب عليه.
ويقدر والد الطالب أحمد كلفة الدروس الخصوصية بمبلغ لا يقل عن 6 ملايين ليرة، أي ما يعادل راتبه كموظف حكومي لمدة عامين تقريباً. وأن عليه تأمين هذا المبلغ ولو باع أعضاء من جسده كما قال، وسط جو من السعي المحموم للخروج بأفضل النتائج لمستقبل الأبناء.
على قد الحال
بالمقابل هنالك حالات رغم أنها قليلة جداً لطلاب لا يستطيع أهاليهم الإنفاق على دروسهم الخصوصية، ويتحضر طلاب هذه الشريحة للاعتماد على ما يتم تقديمه في المدرسة رغم أن أكثر المدرسين يدخرون طاقاتهم للدروس الخصوصية وليس للحصة الدرسية في المدرسة.
علياء عبدو، موظفة حكومية هي وزوجها، وهم ممن لا يمكنهم الدفع على الدروس الخصوصية تقول لـ”963+” إن ابنتها تأقلمت مع الواقع وقرأت بجد منذ بداية العام.
وأضافت الوالدة أنها على استعداد لبيع قطعة الذهب الوحيدة في بيتها وهي خاتم زواجها في حال احتاجت لجلسات ما قبل الامتحان.
الدروس الخصوصية
الدروس الخصوصية نقلت حال المدرسين الذين يعتمدونها من حال إلى حال. يقول مدرس مادة الرياضيات طارق محمد، إنه ترك التعليم في المدارس الحكومية، ويدرس حالياً في مدرسة خاصة، “يمكن وصفها بأنها لأبناء الطبقة المخملية، حيث تبلغ رسوم التسجيل للطالب الواحد 50 مليون ليرة سنوياً، هذا عدا عن تكاليف النقل واللباس والكتب ورسوم بعض الأنشطة خلال العام الدراسي، ليصبح المبلغ أكثر من 70 مليون ليرة”.
ولفت إلى أن هذا ليس كل شيء، بل أن الكثير من أهالي الطلاب يطلبون دروساً خصوصية في المنازل أيضاً، لضمان حصول أبنائهم على ما يؤهلهم دخول كلية الطب كحلم أول.
بالآلاف
في الإحصاءات، توجه 558865 طالباً وطالبة في الشهادة الثانوية العامة للمراكز لتقديم الامتحانات، على أن يبدأ امتحانات الشهادة الأساسية غداً الاثنين.
وبلغ عدد المراكز الامتحانية ٥٠٢٧ مركزاً بجميع المحافظات السورية، بحسب وزارة التربية في الحكومة.
وبيّن مدير الامتحانات يونس فاتي، أن الوزارة أعدت خطة خلال امتحانات الشهادتين المتوسطة والعامة تتضمن توفير جو امتحاني مناسب وبوجود مشرفين تربويين بالإضافة إلى التشدد بالمراقبة.
واعتبر مدير الامتحانات بأن “المدارس الحكومية من دون استثناء تقدم خدمات تعليمية بالمجان لجميع الطلبة وبسوية عالية توازي المدارس الخاصة”، معتبراً أن “الدروس الخصوصية لا تخلق طالباً متفوقاً، وتعد بمثابة ترميم واستدراك فقط”.
تعرفة رسمية
أما مدير التعليم الخاص في وزارة التربية راغب الجدي فقد أوضح أن الوزارة حددت الشهر الفائت عبر قرار أصدرته الأقساط والأجور للمؤسسات التعلمية الخاصة، إذ راعى القرار ارتفاع نسبة التضخم في سوريا إلى مستويات قياسية.
وأضاف: “وفقاً للقرار، حددت الوزارة القسط المدرسي للمرحلة الثانوية حسب الفئة (من الأولى إلى الرابعة) بين مليون و400 ألف ليرة للفئة الرابعة، وصولاً إلى مليونين و450 ألف ليرة للفئة الأولى”.
وقسط تعليم أساسي حلقة ثانية أيضاً حسب الفئات، حيث يتراوح بين مليون و50 ألف ليرة للمدارس تصنيف الفئة الرابعة، ومليونين ومئة ألف ليرة للفئة الأولى.
كما حددت الوزارة القسط المدرسي للتعليم الأساسي حلقة أولى بين 700 ألف ليرة للفئة الرابعة، ومليون و750 ألف ليرة للفئة الأولى، كما تم تحديد قسط رياض الأطفال حسب فئات المدارس الخاصة كالتالي: الفئة الأولى بمليون و225 ألف ليرة، والفئة الثانية بـ 875 ألف ليرة، والفئة الثالثة بـ 700 ألف ليرة، والرابعة بـ 525 ألف ليرة.
وبحسب الجدي، فإن القرار تضمن أيضاً تصنيف الخدمات والميزات الإضافية وفق درجة التصنيف وعدد النقاط المستحقة لكل مؤسسة تعليمية خاصة، مع العلم أن قيمة النقطة الواحدة بـ 90 ألف ليرة، بمعنى كل مدرسة لديها تصنيف خاص بها فإذا كان تصنيف المدرسة 90%، فيكون المبلغ المالي مضافاً للقسط التعليمي ليصل إلى 10 ملايين ليرة بعد ضرب النسبة بـ 90 ألف ليرة للمدارس تصنيف الفئة الأولى.
واعتبر الجدي أن هذا المبلغ “يعد مقبولاً مقارنة بالأرقام الكبيرة التي تتقاضاها هذه المدارس، والتي سُمح لها بالربح وفقاً للمرسوم التشريعي رقم 55 لعام 2004”.
تحول لتجارة
وفي محاولة تشخيص واقع الضغط الذي يعيشه الطلاب وأهاليهم مع البكالوريا قال الاختصاصي التربوي حسين حيدر لـ”963+” إن “التعليم تحول إلى تجارة، وإن المجتمع السوري بشكل عام مصاب بمرض شهادات الطب والهندسات، منذ زمن طويل، لأنها تضمن المقام الرفيع للعائلة بين الناس، وكذلك هناك أبناء الأغنياء الذين يملكون كل شيء مادياً، وما يحتاجونه فقط هو استكمال البريستيج بالحصول على شهادات جامعية، وأحياناً شهادات عليا، ليضعوها في مكاتبهم ومعاملهم، ويدفعون في سبيل ذلك مبالغ طائلة”.
وبين أنه خلال فترة الحرب “انتشرت أشكال من الفساد خلال الامتحانات الثانوية، كتسريب الأسئلة، أو تغشيش الطلاب أثناء الامتحان، ووصلت الأمور إلى شراء المراكز الامتحانية من قبل بعض المدارس الخاصة، حتى تتم عمليات الغش ويحصل طلابها على أعلى العلامات، وهذا يضمن لهم قبول “زبائنها” بالأسعار الخيالية التي تطلبها”.
وبرأي حيدر هذا “ينطبق على فئة محدودة من السوريين، لكن الغالبية تعاني من كثير من المشاكل، وفي مقدمتها سوء المستوى التعليمي الذي أصاب المدارس الحكومية بسبب تدني مستوى الأجور، وكذلك موضوع انقطاع الكهرباء والتقنين الجائر الذي يحرم نسبة كبيرة من التلاميذ من القدرة على القراءة ليلاً، هذا إضافة إلى أن الوضع الاقتصادي السيئ يجعل من إكمال الدراسة ضرباً من الخيال، فهناك عائلات لا يمكنها أن تؤمن أدنى المستلزمات لأبنائها حتى يدرسوا، وتضطر لإدخال قسم منهم إلى سوق العمل، ليكمل الباقون”.
ولفت إلى أن “الجيل الحالي لم يعد يؤمن بالدراسة فهو يراقب وضع الأجيال التي سبقته وتعلمت، وهي الآن غير قادرة على تأمين حياة كريمة لأسرها، لذلك يفضل الاتجاه نحو سوق العمل”.
تحديات وصمود
تعيش هيفي عبدالله شيبو، طالبة ثانوية من مدرسة ساطع الحصري في مدينة القامشلي شمال شرقي سوريا، تجربة تعليمية مليئة بالتحديات، بحسب ما تصفها في حديثها لـ”963+”.
ورغم الصعوبات اللغوية التي تواجهها بسبب عدم دراستها اللغة الكردية إلا منذ سنوات قليلة، إلا أن “الدعم الكبير من الطاقم التدريسي ساعدها وزملائها في تجاوز هذه العقبات وإتقان الكتابة والتعلم بهذه اللغة”، التي يأملون أن تصبح رسمية في سوريا.
وأصدرت الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، قراراً بضم العاشر الثانوي للنظام التعليمي في المناطق التي تديرها، وأقرت منذ مطلع العام الدراسي (2018 / 2019) المنهاج الكردي، إلى جانب العربي والسرياني، على طلبة الأول الثانوي، ثم توسع هذا المنهاج ليشمل باقي الصفوف الثاني والثالث الثانوي عام 2020.
ويبلغ عدد طلاب الثانوية النظاميين لهذا العام، 2743 طالبًا، بينما يصل عدد طلاب الثانوية الحرة إلى 907 طالبًا. ويعتمد نظام التقييم في الشهادة الثانوية (البكلوريا) على متوسط درجات الطالب في الصفوف العاشر والحادي عشر والثاني عشر، مما يشكل النتيجة النهائية التي يتم تقييم الطلاب بناءً عليها للمفاضلة الجامعية.
تعليم وسط الحرب والتظاهرات
سجل ٥٦ ألف طالب موزعين على ٢٥٠ مركزاً امتحانياً في كامل المناطق التي تديرها الحكومة السورية المؤقتة الموالية لتركيا في شمال غربي سوريا، بحسب مديرية التربية والتعليم التابعة للحكومة.
وتأثر قطاع التعليم في شمال غربي سوريا، حيث تسيطر هيئة تحرير الشام/ جبهة النصرة سابقاً، بسبب القصف المتبادل بين أطراف الصراع في المنطقة، وما زاده هذا العام هو التظاهرات التي يقوم بها سكان تلك المناطق ضد سياسات الهيئة.
وسبق أنّ صرّحت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) عن خطورة واقع التعليم في سوريا، وقالت إنّ نسبة الطلاب السوريين غير الملتحقين بالتعليم نتيجة القصف قد بلغت 39%.