غالباً ما تُعرف قيمة الإنسان السياسية بمدى نفوذه وتأثيره، والأهم، بما يحدث عند غيابه.
غاب رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إبراهيم رئيسي، بتحطم طائرته شمال غرب إيران، في 19 أيار/مايو الجاري. الحدث الجلل لم يأخذ مكانة مهمة بعد وقوعه، ما دل على ضعف تأثير الرجل داخل إيران وخارجها، وعدم أهميته بالنسبة لحاكم إيران.
لو كان الغائب هو المرشد الأعلى علي خامنئي، أو أمين عام “حزب الله” حسن نصرالله، أو حتى عبد الملك الحوثي، لكانت غصت طهران وصنعاء ودمشق وبغداد وبيروت بالجلسات التأبينية، ولكانت اتشحت طرقات هذه المدن بالسواد والآيات الدينية. من يدري، ربما كان ليُشن هجوم على إسرائيل والسفارات الغربية، أو على بعض المواطنين العزل كـ “فشة خلق”.
في المقابل، غياب رئيسي الصادم ليل الأحد الماضي، تلاه أفعال جدّ عادية من قبل أنصار الثورة الإيرانية والملحقين بها في المنطقة. لم يشهد جنوب العراق مسيرات مليونية، ولا ارتفعت اتهامات عالية السقف ضد إسرائيل وأميركا “الشيطان الأكبر” في بيروت. حتى الحداد الرسمي الذي أعلِن عنه لبنان لثلاثة أيام، مرّ مرور الكرام ولم يلتزم به أحد تقريباً.
في تصريحه الأول بعد مقتل رئيس جمهوريته، أعلن نائبه محمد مخبر أن “أطر النظام الإيراني وأسسه متينة، ولن تكون هناك مشكلات في إدارة البلاد”، وهذا ما أكده أيضاً معظم القادة الإيرانيين. أسلم الجميع بأن الحادث الذي أودى بحياة الرئيس سببه خلل تقني وظروف مناخية، بينما تقدم التأكيد المكرر حول قوة النظام الإيراني على ندب رئيسي وإظهار فضائله.
كثرة نفي الشيء دليل على وجوده، على ما تقول الحكم الأدبية. فإن كان موت رئيسي أثار نفياً مكرراً حول حال النظام، فإن حال هذا الأخير تبقى الأساس الذي يدافع عنه قادة إيران، ليس لعظمة وأهمية النظام بذاته، إنما لأنه يؤمّن لهم دوام الاستفادة من النفوذ والسلطة والمكانة التي يتمتعون بها.
وعلى الرغم من كونه رئيساً للجمهورية، إلا أن نفوذه كان محدوداً أمام تسيّد المرشد الأعلى ومكتب الإرشاد والحرس الثوري الإيراني على كل شيء داخل إيران أو ما هو مرتبط بها. حتى وصول رئيسي إلى موقعه كان بمباركة ودفع من المرشد نفسه الذي أراد، عام 2021، إيصال شخصية محافِظة تعكس نفوذه داخل النظام السياسي الإيراني، وتنهي عهد الإصلاحي حسن روحاني في السلطة.
لا يغيب الصراع بين الإصلاحيين والمحافظين داخل إيران، إلا أن الطرفين يعرفان أن السلطة الحقيقية هي للمرشد الأعلى علي خامنئي، كما لابنه، مجتبي، المرشح لخلافة والده، والذي لم يبدِ أسفاً مهماً على وفاة رئيسي. فيما هذا الأخير كان جزءً من التيار المحافظ، وأداة له لدوام بقاء هذا التيار في السلطة.
حتى أن بعض الصحف الأجنبية، المطلعة على أحوال إيران وظروفها وتوزيع القوة وهوية صنّاع القرار فيها، اعتبروا أن خسارة إيران الحقيقية في 19 أيار/مايو كانت بوفاة حسين أمير عبد اللهيان، وزير الخارجية الإيراني الذي كان في طائرة رئيسي، والممسك بزمام التفاوض العلني حيناً والسري أحياناً مع الغرب بحسب صحيفة نيويورك تايمز.
وتتوزع خطوط “الصراع” داخل إيران حالياً على ثلاثة تجمعات للقوى. الأول هو المرشد الأعلى وابنه وسلسلة طويلة من رجال السلطة والأمن الذين يمثلون التيار المحافظ ذي النفوذ القوي داخل النظام السياسي. أما الثاني، فيقوم على مجموعة من البيروقراطيين ورجال الدين العاملين في المؤسسات الرسمية، بينهم رئيس البرلمان الإيراني الحالي، محمد باقر قاليباف، كما غلام حسين محسني إيجئي، رجل الدين والسياسي ورجل المخابرات الذي يشغل حالياً رئاسة السلطة القضائية الإيرانية. فيما التجمع الثالث، فيضم الإصلاحيين الذين يمثلهم، بشكل غالب، رئيس الجمهورية السابق، محمد خاتمي.
وإن كان مفهوم عدم تعزيز مكانة رئيسي بعد وفاته من قبل التيار الثالث غير الراضي عن أدائه، كما من قبل التجمع الثاني الذي يرى الآن فرصة للترقي والحصول على موقع رئاسة الجمهورية، يبقى أن التجمع الأول، المعني بشكل مباشر وأساسي برئيسي ودوره في النظام السياسي، لم يقم بالكثير لخلق سردية تعاطف مهمة حول الرئيس الغائب، ولا في جعل موته قضية يمكن النضال في سبيلها أو التفاوض عليها.
فكما كان رئيسي أداة للتيار المحافظ عند قدومه إلى رئاسة الجمهورية، بدا لحظة غيابه، من دون أثر أو أهمية، فاستعجلت القيادة الإيرانية وداعه والبحث عن خلف له، وعينت، في اليوم التالي على غيابه، يوم 28 حزيران/يونيو لينتخب الشعب الإيراني رئيسه الجديد.
التراجيديا التي عادة ما تصيب الشعوب عند وفاة رئيسها غابت عن إيران. قلة من الشعب الإيراني تفجعت على غياب رئيسي، فيما ركز الإعلام الإيراني والموالي له على قوة النظام وقدرته على تخطي الصعوبات، كما اكتفى أمين عام “حزب الله” بالقول إن الرئيس الإيراني كان “مؤمناً بمشروع المقاومة”، وبأن “الدولة الإيرانية أحزنها جداً شهادة رئيسها، والدستور الإيراني يعالج المسألة والمؤسسات الإيرانية تعمل وهي دولة قانون على رأسها قائد حكيم وعظيم”.
غاب رئيسي دون أثر مهم، فيما تستمر الحياة بشكل عادي في إيران. سينتخب الناس رئيساً جديداً بعد حوالي شهر من الآن، ولن تتصارع التجمعات الثلاث في الداخل الإيراني كثيراً مع بعضها البعض، وذلك في انتظار تضعضع سلطة المرشد الأعلى الهرم في القادم من الأيام.