في عصر الرعاية الصحية القائمة على القيمة، يمكن أن يؤدي منع النتائج السلبية للمرض أو تخفيف تأثيرها قبل حدوثها إلى تحسين نوعية الرعاية الصحية المقدمة، وتقليل التكاليف بشكل كبير. ويتطلب ذلك أن يمتلك العاملون في مجال الرعاية الصحية مجموعة واسعة من قواعد البيانات والقدرة على تحليلها بفاعلية، وهذه مهمة يمكن الذكاء الاصطناعي أن يؤديها على أكمل وجه.
وتتمتع تقنيات الذكاء الاصطناعي بإمكانات عالية في مجالات الطب المختلفة، من تحديد الأمراض وتشخيصها وعلاجها، وتسريع التجارب السريرية وتطوير الأدوية، إلى خفض تكاليف الرعاية الصحية.
تحديات وفرص
وعليه، ناقش خبراء وزارة الصحة في الولايات المتحدة استخدامات الذكاء الاصطناعي وآثاره في مؤتمرهم في 10 نيسان/أبريل الفائت، تحت عنوان “الطب العسكري في عصر الذكاء الاصطناعي: التحديات والفرص”، حيث تنفذ أنظمة الذكاء الاصطناعي عمليات يصعب على الإنسان إجراؤها بالسرعة والدقة نفسيهما، كما أنها تتعلم من الأمثلة المقدمة بدلاً من برمجتها. وشدد هؤلاء الخبراء على ضرورة استخدام هذه الأنظمة الذكية بطريقة مسؤولة وأخلاقية.
وكانت شركة “جنرال إلكتريك” العملاقة قد أعلنت حصولها على منحة بقيمة 44 مليون دولار لتطوير تقنية الموجات فوق الصوتية المدعومة بالذكاء الاصطناعي، لتحسين نتائج الرعاية الصحية، مثل تقليل عدد وفيات الأمهات التي يُمكن الوقاية منها، والمرتبطة بالحمل والولادة، حيث بلغت عدد هذه الوفيات 800 امرأة يومياً حول العالم في عام 2020.
كشف سرطان الثدي ومتابعته
يحقق الذكاء الاصطناعي تقدماً في تدبير أحد أكثر أنواع السرطانات انتشاراً؛ حيث أشارت دراسة نُشرت سابقاً في مجلة “Radiology” إلى قدرة تقنيات الذكاء الاصطناعي على التنبؤ بمخاطر الإصابة بسرطان الثدي بدقة عالية، باستخدام خوارزميات متخصصة للغاية.
وقد ارتفع معدل البقاء على قيد الحياة مدة 10 سنوات للمصابات بسرطان الثدي في أوروبا إلى 80 في المئة، بسبب الكشف المبكر وتطور العلاجات، التي تحمل العديد من الآثار الجانبية فترة طويلة، لعلّ أهمها الوذمة اللمفاوية في الذراع.
ومن أجل التنبؤ بالمريضات المعرضات لتلك المشكلات، درّب الباحثون خوارزمية الذكاء الاصطناعي على بيانات من أكثر من 6000 مريضة باستخدام 32 ميزة، وبلغت نسبة الدقة الإجمالية للنموذج 73 في المئة.
ويُنشئ نموذج الذكاء الاصطناعي قواعد بيانات وقائمة بالمخاطر الموجودة لدى كل مريضة. على سبيل المثال، ربما تكون المريضة معرضة لخطر كبير للإصابة بالوذمة اللمفية في الذراع بسبب عدد العقد الليمفاوية المصابة بالسرطان، أو نوع العلاج الإشعاعي الذي تتلقاه، أو وزن الجسم. حينها، يمكن الطبيب والمريضة استخدام المعلومات لاتخاذ قرارات صحيحة بشأن الرعاية الداعمة أو الوقائية للوذمة اللمفية.
وفي السياق نفسه، أثبتت دراسة أنّ الذكاء الاصطناعي حقق معدل نجاح أفضل بنسبة 20 في المئة من أطباء الأشعة في اكتشاف سرطان الثدي، وحقق معدل نجاح بنسبة 100 في المئة في اكتشاف الأورام الميلانينية، ما يؤكد أن مستقبل أنظمة الرعاية الصحية واعد.
الذكاء في الإسعاف والتنبؤ بالانتحار
من جهةٍ أخرى، كشف باحثون من كلية الطب بجامعة كاليفورنيا في سان دييغو، في كانون الثاني/يناير 2024، أن نموذج التعلم العميق المطبق في أقسام الطوارئ (EDs) يتنبأ بدقة بالإنتان، وبالتالي يقلل الوفيات.
ووجدوا أنّ نشر الأداة المعروفة باسم “COMPOSER” في أقسام الطوارئ في مركز جامعة كاليفورنيا الطبي قلل من معدلات الوفيات الناجمة عن تسمم الدم بنسبة 17 في المئة.
ولم تتوقف استخدامات الذكاء الاصطناعي عند هذا الحد، حيث دخل مجال الرعاية النفسية؛ فقد نشر باحثو ”Kaiser Permanente“ دراسة في آذار/مارس الماضي في ”JAMA Psychiatry“ توضح بالتفصيل كيف يمكن نموذج التعلم الآلي التنبؤ بمحاولات الانتحار بين المرضى المقرر لهم زيارة مراكز الصحة العقلية.
وأشار الباحثون إلى أن الإبلاغ عن هؤلاء المرضى المعرضين للخطر أمر ضروري وصعب على حد سواء، حيث يجب تحديدهم في وقت مبكر لأنّ الكثير منهم يتوقفون عن المراجعة الصحية بعد عدد قليل من الزيارات.
ويعتمد النموذج على المعلومات الواردة من زيارات القبول ومحاولات الانتحار المسجلة للتنبؤ باحتمال إيذاء النفس والانتحار في الأيام التسعين التالية للزيارة.
أمام هذه النجاحات التي يحققها الذكاء الاصطناعي في تطوير نظام الرعاية الصحية، ورداً على المخاوف والتساؤلات التي تدور في الأوساط العامة بشأن احتمال أن يحل الذكاء الاصطناعي مكان الأطباء، أكد رئيس الجمعية الطبية الهندية، آر في أسوكان، أنه “لا يمكن الذكاء الاصطناعي أن يحلّ محل الأطباء، لكن يمكنه أن تساعد الممارسين الطبيين”.
وشدد أسوكان على أن مهنة الطب “كانت دائماً أول من احتضن التقنية الحديثة، لكن الذكاء الاصطناعي لا يستطيع أن يختزل العلاقة بين الطبيب والمريض، خصوصاً في الحالات التي يكون فيها المريض ضعيفاً ويعجز العلم أمام حالته، حينها تزرع شخصية الطبيب ومهاراته في التواصل الثقة في نفس مريضه، وتعزز أمله في الشفاء”.