خاص – ليث العاني/الرقة
“لن يعودوا”. يقولها سعيد ناظراً إلى أحد منازل المسيحيين في الرقة، متمنياً لو يرى أصدقاءه وأبناء ملته الذين هجروا المدينة خلال سنوات الحرب. فالمدينة تشهد اليوم نهضة فكرية وعمرانياً متزايدة، خصوصاً بعد إنقاذها من قبضة تنظيم “داعش”، الجماعة المصنفة “إرهابية” لدى الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي ودول عربية وآسيوية أخرى.
ويضيف سعيد لـ”963+”: “أقول لك إنهم لن يعودوا، فمسلحو ’داعش‘ اندحروا، لكن فكرهم موجود، وله خلايا نائمة تستيقظ بين الفينة والأخرى، وهذا ما يمنع المسيحيين من العودة”، على الرغم من أن “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” أعادت بناء كنيسة المدينة، وسلّمت أوقاف المسيحيين إلى جهة تهتم بها سعياً إلى إقناع من غادروا بالعودة.
وسيطر “داعش” على الرقة في أوائل عام 2014، بعدما هزم فصائل المعارضة السورية المسلحة التي انسحبت من المحافظة إلى ريف حلب. ففرض شريعته على سكانها، مستهدفاً النساء والأقليات، فهاجر أغلبية المسيحيين، بعضهم إلى مناطق تسيطر عليها الحكومة السورية، وبعضهم إلى أوروبا.
عاصر سعيد تلك الفترة “الحالكة” من تاريخ المدينة، كما يقول، إذ أبى مغادرتها وبقي حذراً يمارس عمله في ورشته لتصليح السيارات، ملتزماً “وصايا” التنظيم التي أعلنها في 26 شباط/فبراير 2014، إذ منع مسلحوه المسيحيين من رسم إشارة الصليب في أي مكان فيه مسلمين، ومن استخدام مكبرات الصوت في صلواتهم، على ألا يمارسوا شعائرهم خارج كنائسهم، وألا يحملوا سلاحاً. يقول: “طمس ’داعش‘ جميع أشكال الحياة في المدينة، واستباح حريتها وأوقافها، وحوّلها إلى مدينة أشباح”.
ويتذكر مبتسماً أنه دفع “الجزية” لمسلحي “التنظيم”. يقول: “كان على المسيحيين الأثرياء دفع ما يساوي قيمة 13 غراماً من الذهب الخالص، وعلى المسيحيين غير الميسورين دفع نصف المبلغ، وعلى الفقراء دفع ربعه. وفي آخر أيام ’داعش‘ بالرقة، تراوحت قيمة الجزية المفروضة علينا نحن المسيحيين بين 70 و170 ألف ليرة سورية (بين 150 و350 دولاراً أميركياً)، أو ما يعادلها ذهباً، أي بين 7 غرامات و17 غراماً”.
أصلّي في منزلي
يعمل أغلبية مسيحيي الرقة في منطقتها الصناعية، وكانوا يملكون أكثر من 75 في المئة من الورش هناك، حتى قيل حينها إن “عطلة الصناعة يوم الأحد”، في إشارة واضحة إلى غلبة المسيحيين فيها. إلا أن العدد الأكبر منهم اضطر إلى بيع ورشاتهم والمغادرة، فيما بقي بعضهم متنقلاً بين حلب والرقة.
يقول كريست، النازح من تل أبيض وصاحب متجر لبيع زيوت السيارات، إنه يصلي في منزله. ويضيف لـ “963+” أن الصليب وصور السيد المسيح لم تفارقه، “لكن رجال الدين يرفضون القدوم إلى الرقة لقلة عدد المسيحيين فيها، ولاعتبارات أخرى في مقدمتها المخاوف الأمنية من استهداف ’داعش‘ للكنيسة، ولذلك لا تقام الصلوات فيها”.
ويرفض المسيحيون في الرقة الحديث إلى الإعلام عن هذه المخاوف الأمنية، وبسببها أيضاً. لكنهم يأملون في عودة المسيحيين الآخرين. ويتمنى كريست عودة النشاط إلى أماكن “يجتمع فيها المسيحيون مثل نادي الأرمن، في ظل غياب صلوات عن الكنيسة”.
26 مسيحياً فقط
مسيحيو الرقة موجودون فيها منذ إنشائها، وفيها جالية أرمنية كبيرة ممن فروا من تركيا إلى سوريا بعد المجازر التي ارتكبتها السلطنة العثمانية في حقهم في الحرب العالمية الأولى.
ينقسم هؤلاء المسيحيون إلى ثلاثة طوائف، أكبرها طائفة الروم الكاثوليك ولها كنيسة سيدة البشارة في حي الثكنة، ثم طائفة الأرمن الكاثوليك ولها كنيسة الشهداء قبالة حديقة الرشيد في وسط المدينة، ثم طائفة الأرمن الأرثوذكس ولها كنيسة داخل مدرسة الحرية في شارع القوتلي بالمدينة.
يقول سعيد: “ما لم تدمّره الحرب في هذه الكنائس، أتى عليه مسلحو ’داعش‘، فأتلفوا ما فيها من أيقونات ورموز مسيحية، وحوّلوا كنيسة الشهداء إلى مقر لـ ’الشرطة الإسلامية‘، وكنيسة سيدة البشارة إلى سجن للنساء”.
قبل عام 2011، سكن في محافظة الرقة نحو 800 عائلة مسيحية، بمتوسط ستة أفراد في العائلة الواحدة، أي ما مجموعه 4800 نسمة، مع أخذ تبعية الطبقة وتل أبيض للمحافظة في الحسبان. أما اليوم، فهناك 13 عائلة، تتألف كل منها من شخصين، ما يعني أن هناك 26 مسيحياً في الرقة، وفق إحصائيات غير رسمية.
في الطبقة كنيستان، إحداهما في القرية تعرضت للدمار، فيما تقع الثانية في الحي الثالث، وهي مدمرة أيضاً. ويصل عدد المسيحيين في الطبقة قبل عام 2011 إلى 237 عائلة، فيما لا يتجاوز عددهم عشرة أشخاص، بينهم من يتنقلون بين حلب والطبقة. أما تل أبيض فسكنتها نحو 150 عائلة مسيحية، أغلبيتها من الأرمن، لكنهم هجروها مع دخول “داعش”، وغادرها من بقي فيها حين عادت المدينة إلى سيطرة فصائل المعارضة السورية الموالية لتركيا في عام 2019.
أملاكهم وأوقافهم
عملت الإدارة الذاتية لشمال منذ تشكيلها على توفير مناخ ملائم لعودة المسيحيين إلى الرقة، كي تعود المدينة، وباقي مناطق شمال وشرق سوريا أو ما يُعرف بالجزيرة السورية، إلى ما تميزت به من التنوع العرقي والإثني.
في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2021، افتتح “المجلس المدني” في الرقة كنيسة الشهداء، بدأ ترميمها في آب/أغسطس 2019، مع الحرص على المحافظة على شكلها القديم، فيما افتُتحت رسمياً في 27 أيار/مايو 2022.
وفي 16 نيسان/أبريل الماضي، سلّم “مؤتمر الإسلام الديموقراطي” في إقليم شمال وشرق سوريا دائرة حماية أملاك السريان الآشوريين الكلدان والأرمن أملاك المسيحيين المهاجرين وكنائسهم وأوقافها في الرقة، بموجب مرحلة أولى من مرحلتين نصت عليهما وثيقة تفاهم قُرئت في كنيسة الشهداء.
في المرحلة الأولى، تسلمت الدائرة مباشرةً أملاك الكنائس بالرقة وأوقافها، وهي كنيسة الشهداء وكنيسة السيدة مريم العذراء وكنيسة البشارة للروم كاثوليك، إضافة إلى عقار تعود ملكيته لمسيحيين، ومقبرة في منطقة تل البيعة شمال شرقي المدينة.
وفي مرحلة ثانية، سيتم تسليم باقي ممتلكات السريان الآشوريين الكلدان والأرمن وأوقافهم بالرقة والطبقة، على أن تتم في الأشهر المقبلة.