وكأنه قدر سوريا أن يختلف رسمها بين تاء مربوطة على القلب وألف ممدودة إلى السماء. كانت المسألة لغوية بحتة، فصارت من معايير قراءة موقف الناس إن كانوا مع الثورة أو النظام قبل سقوط بشار وحكم الأسد، وبعد وصول “أبو محمد الجولاني” سابقاً، أحمد الشرع من إدلب إلى دمشق عبر قلعة حلب التي رفع “ثوار وجهاديون” العلم التركي على قلعتها وسط ذهول من لم يكن عالماً بتفاصيل ما وصفها رئيس تركيا رجب طيب إردوغان رداً على تعبير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في كانون الأول/ديسمبر الماضي عن “بالغ القلق”، ليسارع يومها قائد ثاني أكبر قوة أطلسية عديداً بالقول “إن الأمور تم الترتيب لها بهدوء”!
كعهده دائماً، كشف دونالد ترامب المستور محذراً حينها سلفه جو بايدن من خطورة أن تكون “أي صلة لأميركا” بما يجري، واصفاً الوضع بـ “الفوضى والخطر”، وأن ما جرى في سوريا هو “تحقيق ما تريده تركيا منذ زمن بعيد”، مشدداً على أن مفتاح سوريا صار بيد إردوغان الذي كان يتوسل لقاء الرئيس الفارّ أو المتواري عن الأنظار، اللاجئ في روسيا بشار حافظ الأسد. لا مرطّبات تنفع ولا ملطّفات تجدي للتخفيف من وقع السقوط المدوي المزري للنظام وحالة الإحلال التي لا زالت في أشهرها الأولى، ليس فقط لهيئة تحرير الشام “هَتَشْ” النُّصرة سابقاً، بل لمجاميع غلاة المتطرفين والإرهابيين الذين لن تستطيع شركة “بي آر” (علاقات عامة) في العالم تغيير صورتهم في أذهان الناس، أقلهم من نجا من المجازر السابقة في أكثر من ساحة شرق أوسطية، أو من قضوا نحبهم مؤخراً في الساحل السوري باسم مكافحة “الفلول”! تلك اسطوانة مشروخة باتت مهترئة في عدة ساحات من الدول التي اكتوت بنيران “الفوضى الخلّاقة والربيع العربي”.
لذلك، كان تحذير ترامب الأول والأخير في ما يخص سوريا وسلطات الأمر الواقع الانتقالية، هو ضرورة محاسبة منفذي الممارسات الوحشية الإرهابيون الذين نفذوا جرائم القتل والتعذيب و”التعفيش” – ممارسة إجرامية راجت إبان النظام السابق وهي لمن لا يعرف بالمعاناة السورية تعني سلب من يتم قتلهم أو خطفهم أو ترويعهم ممتلكاتهم الخاصة متلازمة مع ما يعرف بالأتاوة، وهي ممارسة قميئة تعود في جذورها إلى العثمانيين القدامى والمماليك (المقاتلين الغرباء بمن فيهم المرتزقة الأجانب)!
ترامب حذر في بيان صادر عن البيت الأبيض وتغريدة أعاد نشرها الرجل القوي المكلف بمتابعة شؤون مكافحة الإرهاب في إدارة ترامب الأولى والثانية، الدكتور سباستيان غوركا الذي كان أول من شكك بقدرة ونوايا الشرع ومن حوله ومن في ركابه من تنظيمات أخرى غير “هتش”، وممن ما زالوا جاثمين على صدر السوريين بعد ما يفترض أنه نجاح “الثورة والتحرير”!
طفحت منصات “التناحر” الاجتماعي بفيديوهات وصور ثابتة وتغريدات لجنسيات أجنبية من فصيلة “ستان” وأخرى من تنظيمات مدرجة على لائحة الإرهاب عالمياً، كالدواعش في عدد من الدول العربية التي عاثت فيها فساداً إيرانُ ومحورها من جهة، ومناهضوها من تنظيمات “جهادية” إرهابية من جهة أخرى.
ما كاد يجف حبر تحذير ترامب “الإلكتروني” حتى سارعت دمشق للإعلان عن تشكيل لجنة تحقيق وطنية مستقلة بجرائم الإرهاب والترويع في الساحل السوري، وخرج الشرع بتأكيد حرصه على وحدة السوريين بجميع المكونات الإثنية، عرقياً وطائفياً، وفوق هذا وذاك كما يقال باللهجة الشامية “حبة مسك”! الجنرال مظلوم عبدي، قائد “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) ما عادوا عدوّا في عيني “الرئيس” الانتقالي الشرع، الجولاني سابقاً، وقد وقّعا في “قلب العروبة النابض” كما سماها الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر أو عاصمة الأمويين الجدد كما يحلوا للمحتفين بالنظام الجديد، وقّعا اتفاق دمج “قسد” بأسلحتها مع الجيش العربي السوري الذي قد يتغير اسمه واسم الجمهورية أيضاً لتوكيد توجه سوريا الجديدة نحو الدولة المدنية بكل مكوناتها الإثنية، دولة المؤسسات والقانون للسوريين كافة، السوريين فقط لا لكل من زعم أنه شريك في تحريرها باسم “الجهاد”!
غوركا شكك في مقابلة خاصة لقناة الحرة الأميركية في إمكانية تحول تلك التنظيمات التي درسها نحو عشرين عاماً إلى “حكومات تمثيلية” بمعنى ديموقراطية. لكنه أبقى الباب مفتوحاً وقال: “سنرى”.
الانتظار جيد والصبر جيد جداً، لكن الممتاز هو الحرص الواجب اتقاءً للغدر، فالتقية لم تعد حكراً على إيران وأذرعها المتهاوية.