اعتادت شعوب بلدان القهر والاستبداد أن تكون احتفالاتها الوطنية مرتبطة بذكرى تخصّ الحاكم المستبد، مثل عيد ميلاده أو يوم تولّيه السلطة، وقد تكون المناسبة للحزب الممسك بالسلطة، ويفرضها على الشعب بوصفها عيدًا وطنيًا. هكذا، توجّب على السوريين لعقود، الاحتفال بذكرى تأسيس حزب البعث، وانقلاب الثامن من آذار/ مارس 1963 الذي حمله إلى السلطة، ثم الانقلاب الذي جعل حافظ الأسد يستفرد بالسلطة، وسمّي “الحركة التصحيحية”. لكن الأمر يختلف في الدول الديموقراطية، مثل ألمانيا التي تحتفل هذه الأيام بالذكرى الخامسة والسبعين لإقرار دستورها أو “القانون الأساسي – Grundgesetz”، الذي طوى صفحة الحقبة النازية المظلمة، ووضع أسس النظام الديموقراطي الاتحادي (الفيدرالي) والاجتماعي للبلاد، فوزّع السلطات بتوازن دقيق بين السلطة الاتحادية (الفيدرالية) وسلطات الولايات، فضلاً عن تبنّيه حقوق الإنسان الأساسية، لا للمواطنين الألمان فحسب، بل لجميع البشر من دون أي تمييز عرقي أو قومي أو جنسي، كي يمنع الطريق على عودة الديكتاتورية.
لا تقتصر إيجابيات الدستور الألماني على المواطنين الألمان فقط، وإنما يستفيد منها غيرهم أيضًا. ذلك أنّ ألمانيا إذ تستقبل على أراضيها النسبة الأكبر من اللاجئين في القارة الأوروبية، فإنّ هذا لا يعود إلى توجهات وسياسات الحكومات المتغيّرة، وإنما يأتي استنادًا إلى “حق اللجوء” المنصوص عنه في الفقرة 16/أ من القانون الأساسي (الدستور) الألماني، ما يعني أنّه التزام من الحكومة بأحكام الدستور. وهو الدستور الذي رسم صلاحيات القضاء الألماني وكفل حصانته واستقلاليته، حتى في ممارسة الولاية العالمية للنظر في قضايا جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية. هذا ما مكّن حقوقيين ونشطاء سوريين وألمان من تحريك دعاوى قضائية ضدّ متهمين سوريين، منهم أعضاء سابقون في أجهزة الأمن السورية أو الميليشيات المرتبطة بها، وطبيب في أحد المشافي العسكرية التابعة للنظام، ومقاتلون سابقون في تنظيمات إسلامية متطرّفة ارتكبت جرائم بحق السوريين.
ولأنّ السوريين حاليًا من أكبر الجاليات الأجنبية في ألمانيا، فالأحرى بهم معرفة هذا الدستور واحترامه والالتزام به، بوصفه الضمانة الأساسية لما يتمتعون به من حقوق في ألمانيا، لا سيما مع صعود اليمين المتطرّف المعادي للأجانب، مثل حزب البديل من أجل ألمانيا – AFD، والذي يواجه بعض مسؤوليه إجراءات قضائية بتهم معاداة الدستور والنظام الديموقراطي.
لقد بلغ عدد السوريين في ألمانيا نهاية عام 2023 قرابة 972 ألف شخصًا، وفق إحصاءات حديثة نُشرت مطلع شهر أيار/مايو الجاري، وقد حصل عشرات الآلاف منهم على الجنسية الألمانية، وأصبحوا مواطنين. إنّ الحصول على الجنسية الألمانية منح اللاجئين السوريين الحقوقَ السياسية كافّة مثل غيرهم من الألمان، كالترشّح والتصويت في الانتخابات العامّة وتولّي المناصب الحكومية، والبرلمانية، على مستوى البرلمان الاتحادي (البوندستاغ) أو برلمانات الولايات، وقد استطاع عدد منهم فعلاً خوض تجارب ناجحة في هذا المضمار. لكن إمكانية المشاركة السياسية الفاعلة لا تقتصر على المجنّسين فقط، فالسوريون (وغيرهم طبعًا) الذين لم يحصلوا بعد على الجنسية الألمانية، لديهم أيضًا فرصة لممارسة أشكال متنوعة من النشاط الفاعل في الشأن العام، والمشاركة في الحياة السياسية والمجتمع المدني، وفق ما يتيحه النظام الديموقراطي الحر في ألمانيا للسكان جميعًا، وليس مواطني الدولة فقط، استنادًا للقواعد الدستورية.
ثمة صعوبات وتحدّيات نسبيّة بلا شكّ، منها تعلّم اللغة الألمانية والتعقيدات البيروقراطية في البلد الجديد ومشكلة العنصرية، فضلاً عن تقصير الحكومة والأحزاب الألمانية في هذا الشأن، والذي يظهر من خلال نقص نسبة تمثيل الألمان ذوي الأصول المهاجرة في الهيئات السياسية الرسمية عمومًا، قياسًا على نسبتهم الفعلية في المجتمع الألماني. لكن الفرص كثيرة، ومكفولة دستوريًا، وبإمكان شخص لا يحمل الجنسية الألمانية ولا يملك حق المشاركة في الانتخابات، أن يكون فاعلاً سياسيًا بصورة أكبر من مواطن ألماني لديه ذلك الحق ولا يمارسه.
هنا تبرز أهمية نشاط اللاجئين السوريين في المجتمع المدني، بوصفه من مجالات التأثير الأبرز في الحياة العامّة الألمانية، على المستويات كافّة. حتى الانتساب إلى الأحزاب السياسية متاح لغير الألمان، فالأحزاب الألمانية الرئيسة لا تشترط الجنسية الألمانية للانضمام إليها، ويكفي أن يكون الشخص مقيمًا بصورة قانونية، بصرف النظر عن نوع إقامته (لجوء، حماية، دراسة.. الخ)، ويلاحَظ زيادة عدد السوريين المهتمين بالحياة السياسية الألمانية، ونجاح بعضهم في خوض المجال السياسي من بوّابة الأحزاب.
ازدادت فرص مشاركة اللاجئين السوريين في الأنشطة العامة، بعد تأسيس مزيد من المنظمات السورية – الألمانية المشتركة، المعنية بمسائل ثقافية وسياسية، وأصبحت جزءًا من المجتمع المدني في ألمانيا، وشريكًا للحكومة في المشاريع الداعمة لمشاركة اللاجئين والمهاجرين في المجتمع. والنتائج الإيجابية لمشاركة السوريين في الحياة السياسية الألمانية لن تقتصر على حياتهم هنا، وستنعكس على سوريا، سواء من حيث نقل المهارات والخبرات المكتسبة عن النظام السياسي الديموقراطي وكيفية عمله، أو بالتأثير في السياسة الألمانية بشأن الملف السوري، لاسيما وأنّ للدولة الألمانية ثقلها السياسي والاقتصادي في أوروبا والعالم، ويمكنها لعب دور في قضايا كثيرة، منها حماية حقوق الإنسان والحريات العامة، وملف إعادة الإعمار، بما قد يدعم التحول الديموقراطي في سوريا مستقبلاً.