مع مرور 40 يوماً على مقتل القيادي في حزب “القوات اللبنانية” باسكال سليمان، باتت السلطات المحلية اللبنانية على أهبة الاستعداد للانقضاض على السوريين. الجريمة التي وقعت في التاسع من شهر نيسان/أبريل الماضي، نفذتها، بحسب السلطات اللبنانية، عصابة سورية، خطفت المغدور إلى ما وراء الحدود اللبنانية، وردته مقتولاً مضرجاً بدمائه.
ومن يعرف العادات اللبنانية عند أهل المغدور ومجتمعهم وما يمثلونه، يعرف تماماً أن لا رد فعلي سيتم قبل مرور الأربعين يوماً؛ ذات الرمزية الدينية. أما الآن، فمرت تلك الأيام وبات الجميع حاضراً للثأر، ولكن عبر أداة جديدة، أقوى وأكثر انتشاراً وأشد وطأة من أدوات السلطات المركزية اللبنانية.
وإن كانت السلطات الرسمية، من أجهزة أمنية وحكومية، مكبّلة اليدين في التعامل كما تشتهي مع اللاجئين السوريين، وذلك، على الأرجح، بسبب العلاقة مع المنظمات الدولية وضغوطاتهم عليها، يبقى أداة وحيدة يمكن للسلطات استخدامها بكثافة، وهي البلديات المنتخبة محلياً والتي تملك بعض الصلاحيات المحدودة، ولكن المهمة، في التعامل مع “الأغراب” ضمن نطاقها الجغرافي.
في مدينة البترون مثلاً، الواقعة على الطريق الرابط بين العاصمة بيروت ومدينة طرابلس الشمالية، عُقد اجتماع الأسبوع الماضي ضم محافظ الشمال، ممثلون عن نواب وأحزاب المنطقة ورؤساء بلديات ورجال دين وفاعلون اجتماعيون. خرج المجتمعون بخطة من بند واحد: إخراج كل سوري لا يحمل أوراق إقامة رسمية من المدينة، فيما أعطي هؤلاء مهلة 15 يوماً لتسوية أوضاعهم، وهي مهلة لا تقضي غرضاً لمن يعرف عمق البيروقراطية الإدارية المعقدة والبطيئة في لبنان.
قرب المدينة، مدينة صغيرة أخرى اسمها طبرجا. هناك البلدية أقوى، ولم تنتظر الأحزاب حتى، فرفعت اليافطات داعية “الأجانب” إلى مغادرة نطاقها البلدي. على المنول نفسه عمِلت عشرات البلديات المجاورة لها، فيما باشرت بلدية الدكوانة، شرق بيروت، في طرد السوريين منها. أما الأمن العام اللبناني، فأعلن في بيان يوم الأحد، وهو يوم عطلة رسمية، عن إغلاق حوالي 500 متجراً أو محل يشغلّه سوريون “دون وجه حق”، كما أصدر قراراً جديداً بعدم تجديد إقامات عائلات السوريين الحاصلين على إقامة في لبنان إن كانوا من العاملين في شركات، جابراً إياهم، بالتالي، المغادرة إلى سوريا.
أما يوم الثلاثاء، فسيشهد انطلاق قافلة نازحين إلى سوريا، أعلن الأمن العام اللبناني أن رقمها متواضع جداً، ولا تضم أكثر من 400 شخص، فيما قالت بعض وسائل الإعلام اللبنانية أن الرقم قد لا يتجاوز الـ200.
على الرغم من ذلك، يبدو الحماس اللبناني فائضاً وزائداً هذه الأيام. حتى على مواقع التواصل الاجتماعي، يكرر المسؤولون الحزبيون والبلديون المحليون دعواتهم “للحزم” و”لمحاربة الخطر على البلاد”. باتت كل مصائبنا من لاجئ يعيش في خيمة أو مشرّد لا يريد العيش في لبنان أصلاً، وتناسينا، على الأرجح، مصائبنا الخاصة، من مغامرات “حزب الله” في جنوب البلاد واستجرار الحروب العبثية، إلى فساد بنيوي مستعصي على الحلّ، أو حتى فراغ رئاسي أكمل عاماً ونصف دون أن يكترث أحد.
واللبنانيون طوائف، لا شعب واحد، وهم يختلفون حول كل شيء تقريباً. فحتى التعامل مع اللاجئين يختلف بين طائفة وأخرى، حيث تنشط البلديات في المناطق المسيحية والشيعية في الضغط على السوريين، ولا تعمل شيئاً مهماً في تلك السنية والدرزية.
وبلديات لبنان، لن تكون مجرد وسيلة في الأيام القليلة القادمة لقمع السوريين، بل ستكون، أيضاً، أداة للسلطات المركزية الجبانة والفاشلة. هي فاشلة، بلا شك، وبكل ما للكلمة من معنى، لعدم قدرتها على حلّ أزمة اللجوء، لا سياسياً ولا دبلوماسياً ولا إنسانياً ولا حتى أمنياً، وهي جبانة، بالتأكيد، لأنها تخاف من عواقب أي عمل تقوم به قد يستدعي ضجة إعلامية تخسِرها مليارات الدولارات الأميركية القادمة من المنظمات الدولية والدول الأوروبية.
الريع المالي الذي تعيش عليه الدولة اللبنانية يكبّل أعمالها، فكان الركون إلى البلديات، كسلطات منتخبة محلياً، هو الملجأ الأخير لفعل شيء ضد تزايد وطأة الحضور السوري في لبنان. ونقول إنه الأخير، على الأرجح، لأن كل الأدوات والوسائل الأخرى استنزفت، لا الهجرة في البحر تخفف من الحضور السوري في لبنان، ولا إغلاق الحدود أمر ممكن لضعف القدرات البشرية واللوجستية اللبنانية وغياب القرار السياسي بذلك. والأهم، لا إمكانية لمد علاقة طبيعية وكاملة بين بيروت ودمشق، فينتج عنها قبول رسمي سوري بعودة آمنة للاجئين، وذلك خوفاً من العقوبات الغربية على لبنان وحكامه.
وهكذا، بينما تعد البلديات رجالها للتصدي لتدفق اللاجئين السوريين، يتعين علينا أن نفهم الأبعاد الإنسانية لهذا الأمر. فالسوريون الذين سيُطردون من بيوتهم ويجبرون على مغادرة المدن والقرى التي استضافتهم، سيجدون أنفسهم في مواجهة حالة من عدم اليقين والفقر والعزلة. فمن دون وثائق قانونية صالحة، سيكونون عرضة للاستغلال والتشرد، أو ربما، القيام بردة فعل.
من يدري في تلك القرى والبلدات الجبلية التي لا يزورها الإعلام إلا بدعوات خاصة، كم سوري يتعرض الآن للإهانة والمذلة على يد شرطي بلدية، أو على يد بعض الحزبيون المتحمسون لأيام الحرب الغابرة.
الأجدر بالبلديات وبالحكومة المركزية البحث عن حلول شاملة ومستدامة لأزمة اللاجئين السوريين، بدلاً من اللجوء إلى إجراءات عشوائية وقسرية تعمّق الأوضاع الإنسانية وتفاقم الأزمة ولا تحل منها شيئاً.