القاهرة
مكانك راوح. هذا هو واقع الأزمة السياسية في ليبيا. فكل واحد من الفاعلين المحليين يقبض على منصبه ولا يرضى التراجع، ما يدفع نحو ترجيح حالة الانسداد السياسي، ويثير المخاوف من تجدد الاقتتال. وإن حصل ذلك، سيُصعب من احتمال تنفيذ الاستحقاق الانتخابي الرئاسي، ما يدفع بالكثير من القوى الدولية إلى طرح البدائل السياسية الممكنة.
وينظر المجتمع الدولي المهموم بـأحداث غزة وبؤر التوتر في الشرق الأوسط بكثير من الريبة إلى التناقضات العميقة بين إدارتين متنافستين على السيطرة في ليبيا: “حكومة الوحدة الوطنية” ومقرها طرابلس، برئاسة عبد الحميد دبيبة، و”حكومة الاستقرار الوطني” الموازية في شرق ليبيا، التي أنشأها برلمان طبرق في شرق البلاد. فهذه التناقضات عززت الصراع المناطقي على المناصب السيادية بين مؤسسات الشرق الليبي والغرب الليبي، الأمر الذي بدت معه البلاد على طرف نصل حاد، من دون تحقيق أي خطوة متقدمة في المسار السياسي.
ولم يصوت الليبيون في انتخابات رئاسية أو برلمانية منذ 2014، عندما أدى التصويت المتنازع عليه إلى انقسام في الحكم وتنازع على النفوذ. وما تزال الانتخابات بعيدة بسبب اختلاف السلطات المتنافسة.
إخفاق أممي
أجرت ستيفاني خوري، نائبة رئيس البعثة الأممية إلى ليبيا، لقاءات مكثفة مع أبرز القادة السياسيين والعسكريين الليبيين تمهيداً لتسلم مهامها بالوكالة مسؤولة للبعثة الأممية في ليبيا خلفاً للمبعوث الأممي المستقيل عبدالله باثيلي، الذي رافقها اللقاء مع رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة في طرابلس، والفريق محمد الحداد رئيس الأركان العامة لقوات حكومة الوحدة الوطنية في مقره بطرابلس.
وكان باثيلي قد قدم استقالته إلى الأمين العام للأمم المتحدة منتصف نيسان/أبريل الماضي، قائلاً إن المنظمة الأممية “لا يمكن أن تتقدم بنجاح نحو حراك سياسي فاعل وناجز في ظل قادة مؤسسات محلية يركنون إلى مصالحهم الشخصية وقدموها على حاجات البلاد”.
وأتى هذا الكلام بعد إخفاق البعثة الأممية في جمع القادة الخمسة الرئيسيين في ليبيا على طاولة واحدة، وهم: دبيبة، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، ورئيس المجلس الأعلى للدولة محمد تكالة، ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، وقائد الجيش الليبي في شرق البلاد المشير خليفة حفتر، في إطار مبادرة تقدم بها باثيلي بنهاية تشرين الثاني/نوفمبر 2023، بعدما رفض صالح حضور الاجتماع بوجود الدبيبة، مطالباً بوجود أسامة حماد، رئيس الحكومة في الشرق الليبي.
وفي إحاطة أخيرة أمام أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، أقر باثيلي بأن الجهود الأممية في ليبيا تواجه منذ نهاية عام 2022 نكسات وطنية وإقليمية، وقال: “في ظل المواقف المتحجرة، والتعقيدات الإقليمية والدولية، أصبحت التحديات التي تواجه الجهود التي تقودها الأمم المتحدة في ليبيا واضحة بشكل كبير”، مؤكداً أن مواقف الأطراف الليبية المتناحرة “تعرقل الجهود المبذولة لدفع العملية السياسية نحو الحل”.
صفقة الدبيبة – تكالة
إلى ذلك، يردّ الدبلوماسي الليبي الشتيوي الجدي، في حديثه لـ”963+”، التناقضات التي تضرب بنية المؤسسات القائمة في ليبيا حالياً إلى عوامل عدة “يرتبط بعضها بطبيعة المجتمع الليبي الذي يرفع من رتبة الجهوية والنمط القبلي، وما يتصل أيضاً بالصفقات السياسية التي تحدد خطوات كل سلطة ومسار”.
من هذه الصفقات، صفقة رئاسة المجلس الأعلى للدولة. يقول الجدي: “وقع اختيار الدبيبة على تكالة ليرأس المجلس الأعلى للدولة لسببين: أولاً لأنهما مقربان، وثانياً لأن الدبيبة يستطيع تقوية موقفه بوجه صالح والتصدي لكل من يسعى إلى إزاحته من سدة رئاسة حكومة الوحدة الوطنية، مستقوياً بتكالة”، ولذا سعى بكل جهد إلى توليته هذا المنصب في منتصف العام الماضي.
وبحسب رواية الجدي، عقد الدبيبة اجتماعات سرية مع أعضاء في المجلس الأعلى للدولة، موالين للتيار الإسلاموي التابع لصادق الغرياني، كي يضمن تصويتهم لصالح تكالة ضد خالد المشري، الرئيس السابق للمجلس. وكانت النتيجة مغادرة المشري وتولية تكالة رئاسة هذا المجلس منذ آب/أغسطس الماضي.
ويتابع الجدي كلامه لـ”963+” فيقول: “رداً للجميل، ينسّق تكالة مواقفه مع الدبيبة في رفض القرارات المتعلقة بالتعديل الدستوري الثالث عشر، والتعديلات المدخلة على القانونين المتعلقين بالاستحقاقين الرئاسي والبرلماني”، مؤكداً أن هذا لا يعني نجاح مخطط الدبيبة بشكل كامل، “فنجاحه مرهون بقدرة تكالة على التراجع عن خطوات اتخذها سلفه المشري بشأن الموافقة على تشكيل حكومة جديدة، والتوافق مع مجلس النواب حول خارطة الطريق للانتخابات”.
تغيّرات متوقعة!
في غضون ذلك، يسود ليبيا اليوم سلام هش، فيما تتواصل المناورات بين الفصائل السياسية. تركز الدبلوماسية على الجهود الأممية لتحديد موعد للانتخابات. وفي ظل حالة الاستقطاب الحاد على الساحة السياسية الليبية، يرجح السياسي الليبي الدكتور عبد المنعم اليسير حصول تغيرات مهمة في الفاعلين المحليين بالداخل الليبي في الأفق المنظور، “لا سيما أن الولايات المتحدة تريد الاستقرار في ليبيا، وتعمل على فرض الهدوء والمصالحة الوطنية بين الأطراف المتنازعة”.
ويضيف اليسير لـ”963+”: “هذه الإرادة الأميركية تسير نحو كل ما يمكن أن يؤدي إلى حلحلة الأزمة وفض الاشتباك وعوامل الخلاف، وستعمل واشنطن لتحقيق ذلك، سواء بالدفع إلى تغيير بعض المعرقلين أو إضعاف نفوذهم”.
ويتابع اليسير: “في تقديري الخاص، عتبة ذلك كله هي المصالحة الوطنية الشاملة واحتواء الجميع، خصوصاً الأطراف الميدانية المسلحة، والتعامل معها بطرق تفاوضية تحقق الأمن والأمان والسيادة للدولة الليبية”.
إلا أن باثيلي المستقيل لا يوافق اليسير تفاؤله، إذ يصف في إحاطته الأممية أخيراً القادة الليبيين بأنهم “أنانيون”، يريدون تحقيق مصالحهم الشخصية على حساب مصلحة ليبيا، واتهمهم بأنهم سعداء بالمأزق الحالي، “وهذا محزن جداً، لأن معظم الشعب الليبي يريد اليوم الخروج من هذه الفوضى”. لكن الحل السياسي بعيد المنال، خصوصاً بعد تأجيل مؤتمر المصالحة الوطنية الليبية الذي كان مقرراً عقده في 28 نيسان/أبريل الماضي.
ويختم باثيلي إحاطته بالقول: “إن التصميم الأناني للقادة الحاليين في ليبيا على الحفاظ على الوضع الراهن من خلال المناورات والمخططات بهدف المماطلة، على حساب الشعب الليبي، يجب أن يتوقف”.