خاص – شفان إبراهيم/ القامشلي
“لأزرعلك بستان ورود، أفضل من درس الآنسة”.. أغنية يُرددها الطالب جوان عيسى 13 عاماً من ريف مدينة القامشلي السورية الواقعة شمال شرقي البلاد برفقة أبناء عمومته المتغيبين عن المدرسة لمساعدة آبائهم في صيانة الحصادة وعربة “التراكتور” وغيرها من القطع التي تحتاج للدهان أو ما شابه.
لا يبدو عيسى نادماً على انقطاعه عن تلقي العلم، بل يبدي فرحه بذلك قائلاً لــ”963+”: “لم أرتد المدرسة منذ 10 أيام، فأنا أساعد أبي في أعمال الزراعة وتحضير مستلزمات موسم الحصاد، وسأحصل منه على أجرة أكثر من مصروفي اليومي للمدرسة”.
إن كان انقطاع جوان عن المدرسة مؤقت، في خلال مواسم الحصاد فحسب، فإن شقيقه مهران منقطع عن المدرسة منذ 3 سنوات. يقول لـ “963+” إن والده اتفق مع مدير المدرسة على ألا يحضر إلى الصف إلا في أيام الامتحانات “التي أنجح فيها دوماً، فالمبلغ الذي يعطيه أبي للمدير أكثر من راتب ثلاث أشهر، والله لو دفع والدي أكثر لكنت من الأوائل”.
بين الحكومة و”الإدارة”
انقسمت العملية التعليمية بين الحكومة السورية والإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، في محافظة الحسكة، من حيث المناهج والمدارس والقرار التعليمي. تدير الإدارة الذاتية 115 مدرسة كانت تابعة لوزارة التربية السورية، وهي تسيطر على 125 مدرسة تُطبّق نظام الدوام الصباحي والمسائي.
ويتراوح متوسط الرواتب الشهرية في هيئة التربية والتعليم التابعة للإدارة بين 60 و85 دولاراً أميركياً، ومتوسط رواتب مدرسي الحكومة السورية بين 20 و30 دولاراً أميركياً شهرياً في أحسن الأحوال.
وتقدّر إحصائيات رسمية صادرة عن الإدارة الذاتية عدد الطلاب المسجلين في مدارسها بالقامشلي بنحو 15900 طالب. ويؤكد مصدر في مديرية التربية بالحسكة، طلب عدم الكشف عن اسمه، وجود 32000 طالب مسجلين في مدارسها.
ويقول المدرّس فايز إبراهيم (49 عاماً) من الحسكة إن فئة من التلاميذ تتلقى خدمات تعليم رسمية، بطريقة غير رسمية، تقدمها جهات تعليمية فاعلة من خارج المدارس الرسمية عبر الدورات الخصوصية في المنازل أو المعاهد الخاصة، وهؤلاء لا يمكن إحصاؤهم بدقة نتيجة غياب البيانات الرسمية، إلى جانب المسجلين رسمياً لدى مدارس الطرفين. يضيف المصدر نفسه أن عدد المتسربين من مدارس الحسكة بلغ 30 ألفاً في المراحل التعليمية الثلاث لهذا العام.
أحجية المدرستين
الغريب في الأمر أن مدارس الحكومة والإدارة الذاتية تشترك بعدد كبير من الطلاب المنتسبين للمنهاجين معاً، فهناك عدد كبير من التلاميذ مسجلين في مدارس “الإدارة” ويواظبون على الدوام فيها، لكنهم في الوقت نفسه مُسجلون في سجلات المدارس الحكومية.
تقول منال الجدعو (44 عاماً)، وهي مدرسة لغة إنكليزية، لـ “963+” إن الأهالي محتارين، “فمناهج الإدارة الذاتية غير معترف به، ولا مستقبل تعليمي جامعي له في سوريا أو خارجها، فيما تحظى مناهج الحكومة بالاعتراف الدولي، ويُمكن لحملة الشهادة الثانوية السورية مباشرة دخول أي جامعة في العالم، لذلك يلجأ الأهالي لتسجيل أولادهم في النظامين التعليميين معاً، فيحضرون الدروس في مدرسة، ويحصلون على الشهادة من مدرسة أخرى”.
وثمة عامل اقتصادي في هذه المسألة. يقول محمود خلف، المقيم في قرية جمعاية الملاصقة لمدينة القامشلي، لـ “963+” إن أقرب مدرس حكومية إلى منزله تقع على بعد 30 كلم، وعلى أولاده أن يقطعوا هذه المسافة الطويلة والشاقة يومياً ذهاباً وإياباً، “وأنا لا أملك أجرة المواصلات التي تصل شهرياً إلى نحو 400 ألف ليرة سورية (ما يعادل 30 دولاراً تقريباً) إن استقلوا سيارة خصوصية، أو نحو 200 ألف ليرة سورية شهرياً (ما يعادل 15 دولاراً تقريباً) إن استقلوا الحافلة”.
كان على خلف أن يجد حلاً لمشكلته: تُدير الإدارة الذاتية ثلاث مدارس قرب منزله، فيُواظب أبناؤه على الدوام في إحداها، كما سجلهم في مدرسة حكومية أيضاً، ويخضعون أيضاً لدورات منزلية مكثفة. يقول: “ما يهمني من مدارس الإدارة الذاتية هو تعلمهم اللغة الكردية، لكن التركيز يكون على المنهج الحكومي، كما يُمكنني توفير أجرة المواصلات في أيام الامتحانات”.
أسباب التسرّب
يكشف “فريق منسقي استجابة سوريا” في تقرير أخير صادر في نهاية كانون الثاني/يناير 2024، بمناسبة اليوم الدولي للتعليم، أن عدد المتسربين والمحرومين من التعليم في سوريا يصل إلى 2,2 مليون طفل، وأن المناطق الخاضعة لفصائل المعارضة السورية في شمال غرب سوريا تضم 340 ألف تلميذ متسرب من التعليم، في ظل وجود 80 ألف طفل في مخيمات النازحين.
ويردّ التقرير نفسه أسباب التسرب المدرسي إلى عمالة الأطفال بسبب التكاليف العالية للمعيشة. وفي تصريحات سابقة، قالت سمر السباعي، رئيسة الهيئة السورية لشؤون الأسرة والسكان إن قرابة 28,4 في المئة من الأطفال السوريين يعملون في الصناعة، و38 في المئة منهم في مجال الخدمات، و20,6 في المئة في التجارة، “وأغلب المتسربين يعملون في مهن خطرة وظروف مناخية قاسية وغير صحية ولساعات طويلة”، على الرغم من أن القانون رقم 17 لعام 2010 يمنع تشغيل الأحداث من الذكور والإناث قبل إتمام مرحلة التعليم الأساسي أو إتمام سن الخامسة عشر من العمر. كما يحظر قانون حقوق الطفل رقم 21 لعام 2021 تشغيل الطفل الذي لم يتم الخامسة عشرة من عمره، واستغلال الطفل اقتصادياً أو في أداء أي عمل يرجح أن يكون خطراً، أو يمثل عائقاً أمام تعليمه.
ويضيف تقرير “فريق منسقي استجابة سوريا” أن الزواج المبكر وبُعد المراكز التعليمية عن المناطق السكنية عاملان مهمان في زيادة التسرب المدرسي، إلى جانب التداخل بين منهجي الحكومة و”الإدارة الذاتية”.
وفي دير الزور والرقة، تتبع المناهج في المناطق التي تديرها الإدارة الذاتية، منظمة اليونسكو، فيما تكتفي المدارس في مناطق سيطرة الحكومة السورية على المنهاج التي تقره وزارة التربية السورية. يقول التربوي المتقاعد رمضان برهم (62 عاماً)، وهو موظف في هيئة التربية والتعليم التابعة للإدارة الذاتية في الحسكة، لـ “963+” إن “هذا التدخل في مسألة التعليم بين منهجين يصعّب عملية الحصول على رقم دقيق لعدد المتسربين من المدارس”.
الخصخصة علّة
تُسيطر وزارة التربية والتعليم في “حكومة الإنقاذ” التابعة لـ “هيئة تحرير الشام/النصرة سابقاً”، على قطاع التعليم في إدلب، وقد قامت بخصخصة التعليم على حساب التعليم العام خلال الأعوام الماضية، ما أفسح المجال أمام تدفق رؤوس الأموال للاستثمار في التعليم من خلال افتتاح مدارس خاصة، استأثرت بالاهتمام وبالكادر التعليمي المتخصص.
يقول عيدان الأحمد (41 عاماً)، وهو من أهالي محافظة إدلب ويعمل في بيع الخضار والفاكهة، إن هذه المنطقة واحدة من أفقر المناطق في سوريا خلال الحرب وبعدها. يضيف لـ “963+”: “ما يعانيه معظم سكانها من فقر مدقع، وتدنٍّ في الرواتب خصوصاً في القطاع العام، وندرةٍ في فرص العمل، وارتفاعٍ فاحشٍ في الأسعار، عوامل دفعت بأغلبية المدرسين إلى مغادرة المدارس الحكومية طلباً لفرص تعليمية في المدارس الخاصة، أو في المدارس التابعة لمنظمات غير حكومية، فسحب سكان المخيمات أبناءهم من المدارس الحكومية وأرسلوهم إلى سوق العمل لعجزهم عن تعليمهم في المدارس الخاصة، وزوجوا بناتهم”، خصوصاً أن الانتساب إلى المدارس الحكومية صار “تضييعاً للوقت لا أكثر”.
لكن، ليس هذا أمراً سهلاً على الكثير من الأهالي. تقول فريال طاهر (37 عاماً)، وهي أرملة تعيش في أحد مخيمات مشهد روحين في ريف إدلب الشمالي، لـ “963+” والغصّة تخنقها: “قررت عدم إرسال بناتي إلى المدرسة، لأنها سيئة. المدارس العامة المقبولة بعيدة جداً عنا، ولا قدرة لي على تسجيلهن في المدارس الخاصة التي تتقاضى بين 20 و45 دولاراً شهرياً”، فهذا يفوق قدرة سكان المخيمات الذين يعتمدون على المساعدات الخارجية ليعيشوا بالحد الأدنى.