“بدها طول نَفَس. خلي المعنويات عالية”. كلمات قليلة غرّدتها الصحافية شيرين أبو عاقلة ذات يوم، كفيلة بأن تروي معاناة الصحافيين في المنطقة برمتها. اليوم، 11 أيار/مايو 2024، نتذكرها بعد عامين على سقوطها برصاص الجيش الإسرائيلي في مخيم جنين بالضفة الغربية.
قبل أيام، في الثالث من هذا الشهر، وبمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة، وجّه أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، رسالة إلى العالم، ختمها بالقول: “حرية الصحافة ليست خياراً، وإنما هي ضرورة”. تكاد تكون هذه الخاتمة تعقيباً على دعوة أبو عاقلة لـ “طول النَّفَس”. فبين الحرية والتنفّس، الضرورة هي نفسها.
تمنح الأمم المتحدة الإعلام اهتمامها الدائم، إذ تعوّل عليه في أمور أساسية مرتبطة بالوصول إلى المعلومات وتسليط الضوء على قضايا عالمية مهمة، ونقل الصورة والصوت “بدءاً بالحروب وانتهاءً بالديموقراطية”، كما قال غوتيريش… إلا أن الوضع في سوريا مختلف جداً، خصوصاً مع استمرار المخاطر الأمنية على حياة من يعمل في مجال الصحافة، إضافة إلى إصدار قانون جديد للإعلام. فهل من مكان يحتاج فيه الصحفي إلى طول النفس والمعنويات العالية أكثر من سوريا؟
صعوبات جمة
تراجع مزن مرشد، رئيسة “رابطة الصحفيين السوريين”، تاريخ الصحافة والإعلام في سوريا، فتقول لـ “963+”: “منذ استلام حزب البعث السلطة في سوريا، لم تتمتع الصحافة السورية بأي هامش حرية”، فاضطر عدد من الصحفيين للهجرة إلى الخارج من أجل التعبير عن الرأي بكل صراحة وحرية، حتى قبل عام 2011، مؤكدة أن مقالاتهم المنشورة في صحف عربية وأجنبية “كانت تخضع للرقابة، وتمنعها السلطات المختصة في الداخل السوري”.
وتضيف: “بعد عام 2011، اضطر عدد كبير من الصحفيين الذين وقفوا مع ثورة الشعب إلى مغادرة البلاد، منهم من هاجر طوعاً، ومنهم من فرّ هرباً من بطش الحكومة السورية”.
ولهذه الهجرة سبب آخر، اقتصادي كما يصنفه الكاتب والصحفي كمال شاهين. فالصحفيون، كما كل المواطنين في سوريا، يسافرون بحثاً عن مستوى معيشي لائق. يقول لـ “963+”: “تراجعت الأجور في محال الصحافة المحلية كثيراً، وصارت هزيلة جداً حدّها الأقصى 10 دولارات، بعدما كانت قبل 2010 موازية للأجور العالمية إلى حد كبير”.
وإذ يحاول من بقي في سوريا من الصحفيين النجاة أولاً من الظروف الاقتصادية القاسية، تلفت مرشد إلى أن بعض المناطق تخضع لقوى منظمة، فيها أجهزة أمنية تفرض رقابة صارمة، “فالصحفي السوري يعرف سلفاً أن الحكومة تنظر إلى مهنة الإعلام بعين الريبة، وتُعامل الصحفي معاملة الجاسوس المُكتشف، مهما بلغت درجة ولائه للحكومة أو التزامه تعليمات النشر، مكتفياً بأدنى درجات الحرية”.
السلامة أولوية
ترى لجين حاج يوسف، رئيسة تحرير “راديو روزنة”، أن من يعمل في الصحافة بسوريا “يدفع ثمن الكلمة بروحه، كي تعيش الأجيال المقبلة في حرية وسلام”، مؤكدة لـ “963+” أن السلامة الشخصية “يجب أن تكون أولوية”.
وتضيف حاج يوسف أن بعض المنظمات الدولية المهتمة بالصحفيين تؤدي دوراً مهماً في حمايتهم وتمكينهم على مستوى الأمن الرقمي وعلى المستوى الأمن الشخصي، وتشير إلى أن التشبيك بين المنظمات الحقوقية المهتمة بالصحفيين والمناصرة واستمرار نشر تقارير الانتهاكات الحاصلة بحق الصحفيين “يمثل عامل ضغط على سلطات الأمر الواقع لوقف الانتهاكات بحق هؤلاء الصحفيين”.
وتعترف حاج يوسف بالتوجيهات الإعلامية للحكومة السورية، “التي لا يُسمح فيها الاقتراب من موضوعات مرتبطة بالحريات أو بقضايا النساء، ولهذا يعمل صحفيون كثيرون حتى اليوم بأسماء مستعارة، خوفاً على أنفسهم من الاعتقال أو القتل”.
سوريا الخطرة!
ليس شاهين وحاج يوسف وحدهما في الخوف على سلامة الصحافيين في سوريا. فنظمة “مراسلون بلا حدود” تقول في تقريرها السنوي لهذا العام، والصادر حديثاً، إن وسائل الإعلام في سوريا “تعمل في بيئة تعُمُّها الفوضى العارمة وينعدم فيها القانون، وتُسجَّل فيها أعداد قياسية من الصحفيين المحتجزين أو المفقودين أو الرهائن”، لتخلص إلى أن سوريا “من أخطر البلدان على سلامة الإعلاميين”.
وفي التصنيف الذي ضمه تقرير المنظمة، تراجعت سوريا من المركز 175 في عام 2023 إلى المركز 179 في هذا العام، متقدمة على أريتيريا التي احتلت المرتبة الأخيرة.
ويشير التقرير إلى تزايد عدد الحكومات والسلطات السياسية التي لا توفر الإطار الملائم لضمان ممارسة الصحافة وحق المواطنين في الوصول إلى معلومات موثوقة ومستقلة ومتعددة، حيث تلاحظ “مراسلون بلا حدود” تدهوراً مقلقاً في دعم واحترام استقلالية وسائل الإعلام، “بينما يقابل ذلك ارتفاع في الضغوط التي تمارسها الدول أو الجهات السياسية الفاعلة الأخرى على مهنة الصحافة وأهلها”.
ولا ينجو الصحفي السوري من الاضطهاد حتى لو خرج من بلاده. فباعتراف “منظمة مراسلون بلا حدود”، يئن الصحفيون السوريون المنفيون في الأردن وتركيا ولبنان باستمرار “تحت وطأة التهديد بالطرد والترحيل”.
علامات استفهام.. وتميز
يقرأ شاهين تصنيف “مراسلون بلا حدود” من منظار آخر، مثيراً بعض علامات الاستفهام “ليس لأننا نقيس ضيقنا مع اتساع حرية الآخر، بل لأن التصنيف يتجاهل الواقع الإعلامي السوري ومقاومته الموت خنقاً أو جوعاً”، مضيفاً: “مضحك أنّ تحتل دول معروفة بتضييقها على الصحفيات والصحفيين في جوار سوريا وفي العالمين العربي والغربي مراتب متقدمة في هذا التصنيف”.
ويشير شاهين إلى حصول الصحافيين على جوائز عالمية، قائلاً: “إنهم يشاركون في صناعة الصحافة بأنواعها حول العالم، وباتوا علامات مميزة في هذا القطاع”. إنه طول النفس بأبهى صورة، على حد تعبيره.
ويتزامن حديث شاهين مع احتفال أقامه “اتحاد الإعلام الحر والاتحاد الدولي للصحافة العربية” عشية اليوم العالمي لحرية الصحافة، في مدينة القامشلي السورية شمال شرقي البلاد، لتكريم إعلاميات وإعلاميين تركوا بصمة في مجالهم. ولفت مسؤولون شاركوا في الاحتفال إلى هامش حرية وسائل الإعلام في المناطق السورية الخاضعة لسيطرة “الإدارة الذاتية” لشمال سوريا وشرقها.
انتهاكات كثيرة
في اليوم العالمي لحرية الصحافة، قبل أيام قليلة، لم يقرأ العاملون في المجال الإعلامي بسوريا رسائل معايدة، إنما طالعوا تقارير تعدد الانتهاكات التي تعرضوا لها، وما زالوا.
فقد وثقت “رابطة الصحفيين السوريين” نحو 1519 حادثة، بينها 1358 حالة خطف، من عام 2011 حتى اليوم، فيما وثقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” مقتل 717 صحفياً أو عاملاً في مجال الإعلام في سوريا قتلوا على يد الأطراف المتصارعة داخل الأراضي السورية.
وتتخذ الانتهاكات التي يتعرض لها الجسم الصحفي في سوريا أشكالاً متعدّدة، ابتداءً بمنع التصوير ومصادرة الأدوات، ومروراً بالاعتقال والاحتجاز والاعتداء بالضرب، وانتهاءً بالقتل.
وتقول “رابطة الصحفيين السوريين” إن هذه استراتيجية تعتمدها القوى الفاعلة في سوريا “لعرقلة وسائل الإعلام وإسكات أصوات الصحفيين المنتقدين”، مؤكدة في الوقت عينه “ضرورة العمل على محاسبة المسؤولين عنها في المستقبل القريب”.
قانون يعزز الرقابة
قبل آذار/مارس الماضي، أصدرت وزارة الإعلام في الحكومة السورية قراراً يمنع إصدار تراخيص عمل للصحفيين وأذون مزاولة المهنة، مستثنية الصحفيين التابعين حصرياً للوزارة، وذلك ضمن قانون جديد للإعلام.
وبحسب النص الرسمي التي أوردته وكالة الأنباء الرسمية (سانا)، لهذا القانون “طابع عصري”، إلا أنه لاقى اعتراض قسم كبير من الصحفيين على خلفية تجميد عملهم الحرّ، ووضعه تحت أحكام وضوابط وزارة الإعلام، وبالتالي يُحتّم تراجع دور الإعلام في سوريا وتخلّفه عن أي فرصة للتطوّر، كما تعريض الصحفيين للمزيد من التضييق والمحاكمة.
وفي هذا الإطار، يلفت شاهين إلى مواد حذفت من القانون ومواد أضيفت. يقول: “ما حُذف يمسّ مباشرةً باستقلالية الإعلام، حيث حُذفت كلمة مستقل التي توجد عادة في قوانين الإعلام المتوافقة مع المعايير الدولية بما يتعلق بممارسة العمل الإعلامي بأنواعه”، فيما كان اللافت عدم استبدال بعض التعابير، ما جعل النصوص الجديدة مبهمة.
وتصف مرشد هذا القانون بأنّه “تكبيل جديد لحرية الصحافة، “إذ حُذفت منه بعض المواد أو الكلمات التي تمنح الإعلام بعض الاستقلالية، فحصر كل المسائل بيد الإعلام المملوك للدولة وحده”، مضيفة: “هذا بحد ذاته يعطينا مؤشراً واضحاً على إطلاق يد الرقيب الرسمي ليتصرف بما يُنشر أو يُسمع أو يُشاهد في البلاد”.
فعلى سبيل المثال، حذفت الفقرة (أ) من المادة السابعة التي تقول إنّ “حرية الإعلامي مصونة بالقانون ولا يجوز أن يكون الرأي الذي ينشره الإعلامي سبباً للمساس بهذه الحرية إلا في حدود القانون”، واستبدلت بعبارة: “حرية الإعلامي مصونة في إطار المبادئ والقيم”، من دون أي إيضاح إضافي.
فرع أمني بصيغة جديدة
يؤكد شاهين أن ثمة تدخل سياسي واضح في صوغ بنود هذا القانون الجديد، “فالقيادة المركزية في حزب البعث تتدخل في سن الكثير من القوانين، كما تتدخل في إدارة اتحاد الصحفيين، حتى صار حال هذا الاتحاد كحال أي نقابة أخرى في سوريا، أي بات مسلوب الإرادة مرهوناً بالقرارات الحكومية”، وهذا ما يعيه كل من يعمل في مجال الصحافة بسوريا، من دون الحاجة إلى شرح وتبرير.
وتضيف مرشد إلى ما يقوله شاهين قائلةً إن وزارة الإعلام في سوريا “ستتحول إلى فرع أمن بصيغة جديدة”. تتابع: “لا شك في أن الوزارة لم تُستشر في شأن هذا القانون، ولم يتم إشراكها في صوغ التعديلات عليه، وهذا دليل على أنه فُصّل على قياس القيادة السياسية، وبمقصّ أمني لا يولي مصلحة الصحفي أو حمايته أي اهتمام”.
من جهتها تقول حاج يوسف بحسرة واضحة: “هذا القانون يقيّد حرية الصحفيين بدلاً من منحهم الحرية”، مذكرة أن دور وزارة الإعلام في سوريا كان دائماً “تنفيذ استراتيجية السلطة السياسية، وبالتالي لا بد أن يكون للقانون الجديد دور رقابي، ليتحكم بمستوى حريات النشر والوصول إلى المعلومات”. وتضيف: “مُنع العديد من الصحف المرموقة من الدخول إلى سوريا، كجريدة السفير اللبنانية حين كانت تصدر، وغيرها، كما حُجب العديد من المواقع الإلكترونية الإخبارية”. وهذا ما لن يتغير قريباً.