في شمال غربي سوريا، فرص العمل قليلة وأسعار السلع الاستهلاكية مرتفعة، ما يجعل الحياة صعبةً جداً. لذلك، يلجأ الآلاف من السوريين هناك إلى العمل في مهن شاقة جسدياً، علّها تزيد دخلهم وتعينهم على تأمين أسباب الراحة لأسرهم ولو بالحد الأدنى.
وانخرط عدد كبير من خريجي الجامعات وحاملي الشهادات التعليمية في سوق العمل “الشاق”، وبينهم كثيرون لا يتمتعون بالصحة الملائمة لأداء الأعمال الشاقة، خصوصاً من المرضى وجرحى الحرب.
قدمٌ.. وساق صناعية
ينحدر عبد الله النمر (40 عاماً) من محافظة حلب، ويسكن مع عائلته في بلدة ترمانين بريف إدلب الشمالي. يعمل النمر اليوم في دكان للحلاقة الرجالية وسط ترمانين، ويعد من أمهر حلاقي المدينة. يقول لموقع “963+”: “كنت موظفاً في القطاع العام. بعد اندلاع الحرب، غادرت وظيفتي. كنت ملماً بمبادئ الحلاقة الرجالية، ففتحت دكاناً في مدينة حلب. وبعد اشتداد القصف في عام 2015، نقلت عائلتي إلى ترمانين، وعندما عدت لأنقل عدة الحلاقة من الدكان، أصبت وبترت ساقي اليمين، وأصبت في كل جسدي”.
ما كان النمر ليستسلم لإصابته، فتابع حياته بشكل طبيعي وافتتح دكاناً للحلاقة الرجالية في ترمانين. لقي دكانه رواج كبيراً بين أبناء جيله وأصدقائه، فأغلبية رجال المدينة يقصدونه للتزيّن. يقول: “استمر علاجي خمسة أشهر كاملة، استطعت بعد ذلك تأمين طرف صناعي لرجلي كي أتحرك، ثم سعيت إلى تجهيز صالون الحلاقة الرجالية، فأنا أعيل عائلتي المؤلفة من ستة أفراد، وهذه العائلة تحتاج إلى عائد مالي لتستمر”.
افتتح النمر صالونه بعد عام ونصف من إصابته، وهو مستمر اليوم بفضل دعم أصدقائه الذين يقصدونه ليساعدوه على تخطي الصعاب… قدر الإمكان. يقول: “إصابتي دائمة، وهي تشكل لي عائقاً دائماً”، فمهنة الحلاقة الرجالية تتطلب وقوفه ساعات طويلة. يضيف: “في كثير من الأحيان، أنا مضطر لتناول العقاقير المسكنة في أثناء عملي كي أستطيع الاستمرار، خصوصاً حين يزدحم الصالون في الأيام التي تسبق الأعياد مثلاً”.
ورقٌ بلا حبر
البطالة حاضرةٌ دائماً في صفوف الشباب في شمال غرب سوريا. هنا، الجامعيون مستعدون للعمل في أي شيء، بغض النظر عن شهادات صرفوا سنوات عدة لتحصيلها، ومهما كان العمل قاسياً أو غير ملائم لكفاءاتهم ولتحصيلهم العلمي ولبنيتهم الجسدية. فالمطلوب اليوم تأمين المال الذي يسد الرمق.
ينحدر عبد الله الشيخ (30 عاماً) من ريف حماة الشمالي، ويعيش في بلدة صلوة بشمال محافظة إدلب. على الرغم من حمله إجازة جامعية، إلا أنه مضطر اليوم للعمل في مهنة البناء الشاقة كي يؤمن قوت زوجته وأطفاله الثلاثة.
يقول الشيخ لـ”963+”: “حصلت على شهادة في إدارة الأعمال منذ خمسة أعوام، وحاولت كثيراً أن أجد فرصة عمل تلائم اختصاصي، فما وجدت. اضطرتني الظروف المعيشية الصعبة إلى العمل في البناء”. يضيف سائلاً: “بمَ تنفعني الشهادة الجامعية؟ إنها حبر على ورق، أو هي صارت ورقٌ بلا حبر، تذكرني بأنني ضيعت أربع سنوات من عمري هباءً في دراسة لا تسد الجوع”.
يتابع الشيخ: “يعمل الشباب الجامعي في منطقتنا أعمالاً شاقة، ففرص العمل قليلة، ومتى وجِدَت ترصدها المنظمات العاملة في المنطقة للإناث بحجة دعم المرأة وتمكينها، وهكذا دمروا القوة العاملة من الذكور”، ففي مقابل كل فرصة عمل للذكور، هناك أكثر من 15 فرصة عمل للإناث.
يعاني الشيخ من مشكلات صحية عدة جراء عمله الشاق. يقول: “أنا في الثلاثين من عمري، أي في ريعان شبابي، أتمتع بصحة جيدة، إلا أنني أشيخ سريعاً بسبب الجهد الكبير الذي أبذله في أعمال البناء، إضافة إلى معاناتي من مشكلات في العامود الفقري بسبب حملي الأوزان الثقيلة، وفي يدي اليسرى التي طلب مني الطبيب ألا أتعبها، وهذا مستحيل”.
إلى أين؟
يرى عدد كبير من طلاب الجامعات من سبقوهم في درب الدراسة وقد انتهى بهم المطاف في سوق عمل لا يلائم مؤهلاتهم، ولا يلائم حتى قواهم الجسدية أحياناً، إنما يضطرون إلى القبول بما تيسّر لهم من فرص عمل في زمن “عزّ فيه القرش”، كما يقولون.
ويكمن الخطر المجتمعي في أن تثني هذه المسألة هؤلاء الجامعيين عن مسعاهم في الحصول على شهادة جامعية، فينصرفون إلى تعلم مهنة أو حرفة، تبدأ معيناً لهم في دراستهم، وتنتهي ملاذاً لهم من الفقر، فيستغنون بها عن أي عمل آخر. فهذا الشاب عمار حاج شعبان، الطالب في السنة الثالثة بكلية الهندسة الميكانيكية في جامعة إدلب، خير مثال.
يعمل شعبان على جرارٍ زراعي في بلدة الأبزمو بريف حلب الغربي حيث يعيش، فيحرث به الأراضي مقابل المال لتأمين مصاريفه اليومية ورسوم دراسته جامعته. يقول لـ “963+”: “علمني والدي هذه المهنة حين كنت بعد طفلاً لأساعده في عمله، وأنا مستمر فيها اليوم لتأمين المال اللازم للدراسة، وأرى أنني سأستمر فيها حتى بعدما أنهي دراستي الجامعية، فلا أمل لي في إيجاد عمل يلائم في شهادتي بعد التخرج، وأنا أرى هذا العدد الكبير ممن سبقوني إلى التخرج وهم لا يجدون عملاً”.
يضيف شعبان: “على الأقل، لن أجوع، فأنا صاحب مهنة تضمن لي الحد الأدنى من الدخل الذي يقيني شرّ العوز، فمعظم المزارعين هنا يقصدونني لحراثة بساتينهم، ولن أحتاج إلى الشهادة، إنما سأعلقها لوحة على الجدار، لا أكثر”، راداً تفشي البطالة في المنطقة إلى ارتفاع عدد الخريجين الجامعيين أولاً، وإلى هيمنة المحسوبيات والواسطات، “فليس المهم ماذا تعرف، إنما المهم مَن تعرف، فربما تكون ملائماً جداً لوظيفة تتقدم إليها، وتكون من نصيب غيرك، فالكفاءة ليست معياراً هنا، إنما قوة الواسطة”.
لا يخلو هذا الكلام من الصحة ومن الخطورة. فصحيح أن سوق العمل في سوريا مختل، فلا مخرجات التعليم الجامعي مستثمرة بشكل مفيد ولائق، ولا مدخلات سوق العمل مختارة على معيار الكفاءة والمهارة والملاءمة؛ وخطرٌ أن يستسلم الشاب السوري لليأس حتى قبل أن يخوض التعليم الجامعي… فنصل يوماً ما إلى جيل مهني بلا دراسة جامعية، وهذا خَطِرٌ جداً.