منذ بداية القرن الحادي والعشرين، اتخذت الولايات المتحدة مواقف متقلبة ومتشابكة إزاء ملفات الشرق الأوسط، تحت عناوين إنسانية وأمنية. تدخلاتها من أفغانستان إلى العراق، ومن ليبيا إلى اليمن، عززت الصورة النمطية لواشنطن كقوة كبرى تُوظّف أدواتها العسكرية والسياسية وفقاً لمصالحها الاستراتيجية، لا سيما في سياق حماية الحلفاء ومكافحة الإرهاب. وسوريا، منذ عام 2011، تحوّلت إلى ساحة نموذجية لهذا التباين بين الخطاب الأميركي الذي يَعِدُ بالحرية والحماية، وبين الوقائع التي تركت السوريين في مهب الفوضى والدمار.
وقبل اندلاع الحرب السورية، لم تكن العلاقات بين واشنطن ودمشق في أفضل حالاتها. فمنذ عام 1979، أُدرجت سوريا في قائمة وزارة الخارجية الأميركية لـ”الدول الراعية للإرهاب”، ما دفع إلى فرض عقوبات متصاعدة، أبرزها قانون “محاسبة سوريا” عام 2003، الذي حظر تصدير الأسلحة والاستثمارات الأميركية وفرض قيوداً واسعة على الاقتصاد السوري.
ورغم بقاء بعض الاتصالات السياسية المحدودة، إلا أن حجم التبادل التجاري بين البلدين كان ضعيفاً للغاية، لا يتجاوز مئات الملايين من الدولارات سنوياً، ما عكس حالة شبه قطيعة سياسية واقتصادية.
اقرأ أيضاً: واشنطن: تمديد حالة “الطوارئ الوطنية” المفروضة على سوريا – 963+
مرحلة الحرب السورية وتحولات الموقف الأميركي
مع اندلاع الانتفاضة الشعبية في آذار/ مارس 2011، تحوّلت لهجة واشنطن بشكل جذري، إذ طالب الرئيس باراك أوباما في آب/ أغسطس من العام نفسه بتنحي الرئيس المخلوع بشار الأسد، تزامناً مع فرض عقوبات مالية واسعة ضد النظام السوري.
ورغم التصريحات الحازمة، اتسم التدخل الأميركي بالحذر، حيث اكتفت واشنطن بداية بدعم محدود لفصائل معارضة مصنفة “معتدلة”، وتقديم مساعدات إنسانية دون انخراط عسكري مباشر.
وتغيرت المقاربة الأميركية مع تصاعد خطر تنظيم “داعش”، خصوصاً بعد 2014، حيث تحوّل التركيز من إسقاط النظام إلى محاربة الإرهاب. وفي هذا السياق، دعمت واشنطن تشكيل قوات سوريا الديموقراطية (قسد)، كشريك محلي لمواجهة “داعش”، ما أرسى شراكة عسكرية امتدت لسنوات.
وبحلول نهاية 2024، أقرت وزارة الدفاع الأميركية بوجود نحو 2000 جندي على الأرض السورية، معظمهم في شرق البلاد، رغم إعلان سابق بوجود 900 فقط.
وفي هذا السياق، قال يوسف دياب، كاتب وباحث سياسي من بيروت، في تصريحات للعدد العاشر من صحيفة “963+” إن “الوجود الأميركي في سوريا مرتبط بمصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية، لا سيما في دعمها لـ”قسد”، وأن واشنطن ستتخلى عن هذا الدعم حين تتعارض مصالحها معه”.
وأضاف: “استفادت الولايات المتحدة من قسد في الحرب على داعش، لكنها لن تتردد في التخلي عنها إذا رأت أن من مصلحتها التحالف مع الدولة السورية الجديدة”.
وأوضح دياب أن هذا الواقع دفع “قسد” إلى تفهم المعادلة، والحديث عن البقاء ضمن الدولة السورية الموحدة، مع السعي للحصول على بعض الخصوصية أو نوع من الإدارة الذاتية، مؤكداً أن هذه المسألة تحتاج إلى حوار معمق.
اقرأ أيضاً: الخارجية الأميركية: المنحة القطرية لسوريا لا تعني تحولاً في موقف واشنطن – 963+
التوتر مع تركيا
هذا التحالف مع “قسد” فاقم التوتر مع تركيا، حليفة واشنطن في الناتو، التي تعتبر “وحدات حماية الشعب” (العمود الفقري لقسد) تنظيماً “إرهابياً”. ورغم محاولات التهدئة، كالاتفاق على انسحاب جزئي من مدينة منبج عام 2018، استمر الخلاف الأميركي-التركي دون حل جذري.
وخلال رئاسة دونالد ترامب، اتخذت السياسة الأميركية طابعاً متذبذباً. فبينما أمر ترامب بقصف قاعدة الشعيرات الجوية في نيسان/ أبريل 2017، ثم شنّ ضربة ثلاثية مع بريطانيا وفرنسا في 2018 ضد مواقع تابعة للنظام، عاد في 2019 ليعلن انسحاباً مفاجئاً من شمال شرقي سوريا، ما أفسح المجال لتوغل تركي جديد وأثار استياء شركاء واشنطن المحليين.
ورغم تقليص الدور العسكري الأميركي، احتفظت إدارة جو بايدن بوجود محدود في سوريا. ركزت السياسة على محاربة خلايا “داعش” المتبقية، دون إحداث تغيير جوهري في ميزان القوى. لم تتخلَّ واشنطن عن دعم “قسد”، لكنها تجنّبت التصعيد مع النظام السوري السابق أو روسيا، محافظةً على سياسة “الضغط المحدود دون الانخراط الكامل”.
وفي تحليل أوسع للسياسات الأميركية، قال زاهي علاوي، خبير في الشؤون الأوروبية والدولية من برلين، إن “الولايات المتحدة الأميركية تعتمد في سياستها الخارجية على منطق المصالح فقط، ولا تكترث فعليًا بحقوق الإنسان أو مبادئ الديموقراطية”.
وأضاف علاوي للعدد ذاته من الصحيفة: “المقولة الشهيرة التي تقول إن ‘من يتغطى بأمريكا فهو عارٍ’ تنطبق على جميع الدول التي تعتمد على الحماية الأميركية، لأنها حماية مشروطة تخدم أهداف واشنطن فقط”.
اقرأ أيضاً: واشنطن: نتوقع محاسبة المسؤولين عن أعمال العنف الأخيرة في سوريا – 963+
المفارقات والتناقضات
في تناقض صارخ، كانت واشنطن تعلن رفضها التدخل في “حرب أهلية أجنبية”، لكنها في الوقت نفسه شنت ضربات جوية وردعية ضد النظام. كما أدى الانسحاب الأميركي المفاجئ في 2019 إلى تدهور أمني كبير ونزوح آلاف المدنيين، بينما أُجبرت “قسد” على التفاوض مع النظام وروسيا لضمان بقائها.
خريطة النفوذ على الأرض تعكس هذا الواقع: في الشمال الشرقي، تسيطر “قسد” بدعم أميركي ضمني، بينما يهيمن النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون على المدن الكبرى، وتحتفظ تركيا بشريط حدودي شمال غربي سوريا. أما إدلب، فشهدت هجمات شرسة بين 2019 و2020، تسببت في مقتل نحو 1600 مدني ونزوح 1.4 مليون، وفق تقارير “هيومن رايتس ووتش”.
وأدت هذه السياسات المتضاربة إلى تفاقم الأزمة السورية، إذ تشير أرقام الأمم المتحدة إلى أن نحو 12 مليون سوري هجّروا قسراً منذ 2011، بينهم 7 ملايين لاجئ في الخارج. لم توفر واشنطن ولا غيرها مناطق آمنة حقيقية للسكان، بل ارتبطت الحماية المحتملة بالمصالح الجيوسياسية أكثر من الاعتبارات الإنسانية.
وعن مسألة حماية المدنيين، وصف دياب هذه القضية بأنها “جدلية إلى حد كبير”، معتبراً أن المدنيين هم دائماً الضحايا في الحروب، سواء وُجدت حماية أميركية أم لا، وقال: “لا أعتقد أن هناك حربًا عبر التاريخ شهدت حماية فعلية للمدنيين، فحتى في أوكرانيا، ورغم دعم الغرب، لم تُؤمَّن حماية حقيقية للمدنيين”.
وحتى العمليات الأميركية ضد “داعش”، ورغم كونها ساهمت في القضاء على نحو 98% من سيطرة التنظيم، لم تكن خالية من الكلفة المدنية، إذ تشير إحصائيات مستقلة إلى مقتل ما بين 8200 و13300 مدني في سوريا والعراق نتيجة الغارات، وهو ما يطعن في شعار “الدقة” الذي رافق تلك العمليات.
البُعد الاستراتيجي للسياسة الأميركية
لا تخفي وثائق الكونغرس وتحليلات الخبراء أن أولويات واشنطن في سوريا لم تكن أبداً إنسانية بحتة. بل سعت إلى: “مكافحة الإرهاب وحماية أمنها القومي. احتواء النفوذ الإيراني في المنطقة. ضمان أمن إسرائيل. الإبقاء على قنوات ضغط على روسيا وتركيا”.
وأكد علاوي أن “الولايات المتحدة تسيطر على المناطق السورية الغنية بالثروات الطبيعية، وتوفر الحماية للأكراد هناك من أجل مصالحها فقط، لا من أجل أي مشروع إنساني أو ديموقراطي”. وأضاف: “أميركا ليست معنية بالشأن السوري كقضية، وإنما معنية بالسيطرة على موارد سوريا”.
كما شدد على أن التدخلات الأميركية في الشرق الأوسط، من أفغانستان إلى العراق وليبيا والسودان، خلفت كوارث إنسانية واقتصادية ضخمة، وقال: “سجل الولايات المتحدة حافل بجرائم ضد الإنسانية، والملايين سقطوا ضحايا بأسلحتها، دون أن تخضع لأي محاسبة، لأنها تعتبر نفسها فوق القانون”.
وختم بالقول إن السياسات الأميركية في المنطقة متماهية تماماً مع المصالح الإسرائيلية، مشيراً إلى أن تصريحات الرئيس جو بايدن، منذ خمسين عاماً، تؤكد هذا التوجه بقوله: “لو لم تكن إسرائيل موجودة، لأوجدناها”.
الحكومة الانتقالية بقيادة أحمد الشرع
مع سقوط النظام السابق، دخلت سوريا مرحلة سياسية جديدة بقيادة “الحكومة الانتقالية” برئاسة أحمد الشرع، وأظهرت هذه الحكومة انفتاحاً حذراً تجاه الغرب، حيث شُكلت حكومة تضم وزراء من مختلف الطوائف، في خطوة هدفت إلى كسر العزلة الدولية وكسب الدعم الغربي.
وفي أبريل 2025، أعلنت الحكومة الانتقالية التزامها بشروط واشنطن، مثل التخلص من الأسلحة الكيميائية وعدم تمكين جهات أجنبية من مفاصل الدولة، لكنها طالبت في المقابل برفع تدريجي للعقوبات والتوصل إلى تفاهمات ثنائية تحفظ السيادة السورية.
وتسعى إدارة الشرع، كما تشير مصادر غربية، إلى شراكة دولية مشروطة بالحوار واحترام القرار السيادي، متجنبة الانجرار وراء الأجندات الإقليمية أو التبعية العمياء لأي طرف دولي.
ويجمع محللون على ان السياسات الأميركية في سوريا لم تنجح في حماية المدنيين أو فرض حل سياسي شامل، بل أفرزت واقعاً متعدد الأقطاب، تغيب فيه السلطة المركزية وتتنازع فيه القوى الدولية مناطق النفوذ. وبين خطاب أخلاقي معلن ومصالح استراتيجية خفية، وجد السوريون أنفسهم ضحايا لصراع دولي يُدار على أرضهم، وسط غياب رؤية أميركية متماسكة أو التزام فعلي بمبادئ الحماية والديمقراطية التي رفعتها واشنطن في البداية.
نشرت هذه المادة في العدد العاشر من صحيفة “963+” الأسبوعية والصادرة يوم الجمعة 9 أيار /مايو 2025.
لتحميل كامل العدد العاشر من الصحيفة النقر هنا: الصحيفة – 963+