من يتابع تلك “الحرب” الدائرة جنوب لبنان، يشعر بضيق النفس، ليس حزناً على من يموت من مقاتلي “حزب الله”، بل من بلادة الحرب نفسها. حتى المراسلون المحليون والأجانب والمحطات التلفزيونية تركوا الجنوب، إذ يبدو أن الشعور بالملل والرتابة ضربهم كما ضرب معظم اللبنانيين أيضاً.
ما عادت المحطات الإخبارية المحلية والعربية والدولية بحاجة لمراسلين هناك، يكفي أن يصل إلى هواتفهم بعض المقاطع المصورة مِن مَن تبقى من سكان في جنوب لبنان، لينقلوها، مع بعض “المونتاج”، إلى مواقعهم الإلكترونية وشاشاتهم. المراسلون اللبنانيون مهتمون الآن في قضايا اللجوء السوري، فيما الأجانب يتحضرون لتغطية حملات الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأميركية التي أوشكت على البدء.
وحدها إسرائيل تبدو سعيدة بما يقوم به “حزب الله” منذ ستة أشهر ونيّف. بات لتل أبيب عذراً دائماً وحجة قوية لتبرير ضرباتها الجوية على جنوب لبنان وسوريا والعراق وأينما وُجد تنظيم عسكري موالٍ للحزب أو طهران. يمكن لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أن يُرسل المزيد من الطلبات لتسليح جيشه إلى الغرب، فيحصل على ما يريده بحجة أن “الإرهابيون” يتحرشون ببلاده ويتمركزون قرب حدودها.
وبالفعل، صادق مجلس النواب الأميركي، في 20 نيسان/إبريل الجاري، على خطة مساعدات عسكرية واسعة لإسرائيل بقيمة 26.4 مليار دولار أميركي. وشملت الحزمة 4 مليارات دولار لمنظومتي “القبة الحديدية” و”مقلاع داود” الدفاعيتين، و1.2 مليار دولار لنظام الدفاع “مغين أور” الذي يعمل بتقنية الليزر. بالإضافة إلى 4.4 مليارات دولار لتجديد وتحديث المنتجات الهجومية والدفاعية والخدمات الأمنية المقدّمة لإسرائيل، و3.5 مليارات دولار لشراء أنظمة أسلحة متقدمة ومعدات هجومية أخرى، و9.2 مليارات دولار مساعدات إنسانية، بحسب بيان رسمي لمجلس النواب الأميركي.
أبعد من الاستفادة الإسرائيلية، لا يبدو أن هناك من يئن من سكان جنوب لبنان الذين نزحوا إلى أماكن أخرى. حتى الأنين لا يُسمع من قِبل 100 ألف جنوبي، حسب وزارة المهجّرين اللبنانية. يعرف هؤلاء، وهم نزحوا خلال “حرب تموز” عام 2006 أيضاً، أن العودة إلى منازلهم ستطول هذه المرة، ولن تكون الحرب الحالية لـ33 يوماً كما كانت في تلك السنة.
مرّ حوالي ستة أشهر ونصف على “الحرب” بين “حزب الله” والجيش الإسرائيلي، لم يتقدم أحد منهما شبراً في أرض الآخر. سقط للحزب حوالي 290 عنصراً حسب بياناته الرسمية، فيما سقط لإسرائيل 15 جندياً حسب الجيش الإسرائيلي. حتى الجيش اللبناني سقط له رجل واحد، تناسى الجميع اسمه ورتبته.
وككل صباح، ترى الأخبار المملّة القادمة من الجنوب هي نفسها، مع تغيير بأسماء القرى اللبنانية والمراكز العسكرية. “حزب الله” يقصف موقعاً عسكرياً أو اثنين في شمال إسرائيل دون أن يُصيب الهدف في معظم الأحيان، ليرد عليه الجيش الإسرائيلي عبر قصف بعض القرى الحدودية، يدمر منزل من هنا، أو يحرق سيارة من هناك، فيموت واحد أو اثنان من مقاتلي الحزب يومياً، ليعود ويشيّعهم في اليوم التالي، فيما يُكمل معظم اللبنانيون حياتهم كأن شيئاً لم يكن.
وككل ربيع، يتحضّر اللبنانيون حالياً لقدوم بضعة ملايين من المغتربين، فيما تزدهر المعارض المسرحية والفنية والحياة على الشواطئ أو في الجبال العالية التي تنشط في بث دعايتها لجذب الزبائن.
بدورها، ما عادت الحكومة اللبنانية مكترثة بما يجري على أراضيها. لا بيانات رسمية حول ما يجري من اعتداءات إسرائيلية على سيادتها بشكل يومي. لا شكوى لمجلس الأمن الدولي، لا إطلاق رصاصة على مسيرة إسرائيلية ولا مبادرة دبلوماسية لإيقاف المناوشات العسكرية بين الحزب وإسرائيل. حتى وزير الخارجية اللبنانية عبدالله بو حبيب، المشهور بترحاله كابن بطوطة بين الدول وتصريحاته الإعلامية الدائمة، يلتزم الصمت منذ أسابيع، لكأنه في إجازة أو أن ما يجري في جنوب لبنان لا يعنيه أو يعني حكومته.
وإن كان ما سبق لا يتضمن مبالغة البتة، تعيش بعض الأحزاب اللبنانية حالة من المبالغة في الحزن والنضال والجهاد المرتبطة بما يجري في الجنوب. ليس هؤلاء أكثرية، بل قلة، وجدوا ضالتهم في المناوشات العسكرية القائمة حالياً. حركة “أمل” التابعة لرئيس مجلس النواب اللبناني نبيه برّي، والحزب “السوري القومي الاجتماعي” بفروعه الثلاثة المنقسمة على بعضها البعض، تعنيهما الحرب الدائرة في الجنوب لكأنها “الملحمة الكبرى” تبعاً لبياناتهم الرسمية شبه اليومية، ولكأن ما يجري سيُغيّر حقيقة شيء في لبنان أو في وجود إسرائيل. يحتاج هذا الحزب وتلك الحركة وغيرهما إلى أوكسجين ليتنفسوا الصعداء، وليقولوا إن هناك مبرر لوجودهم وغاية له، بعد أن يسقط لهم رجل في الجنوب كل فترة.
على كل حال، يدفع سكان الجنوب الثمن الأكبر جراء ما يجري من مناوشات عسكرية لا ترقى لمستوى الحرب من ناحية، ولا تسيّد السلام الحقيقي في حياتهم من ناحية أخرى. فيما لا أفق جديد وحقيقي لهذه المناوشات، إذ لا يبدو أن إيران في وارد المواجهة الكبيرة مع إسرائيل عبر “حزب الله”، ولا يبدو أن تل أبيب في وارد فتح جبهة جديدة جدية قبل التوصّل إلى حلّ عسكري أو سياسي في قطاع غزة.
على هذا المنوال، تُكمل “الحرب” المملة الدائرة في حرق أشجار الزيتون والسيارات جنوب لبنان، تدمر بعض المنازل وتقتل مقاتل أو أكثر كل يوم، فيما تبدو الحرب الجدية مؤجلة إلى ظرف آخر وسنوات أخرى.