تعيش فاطمة بين مدينتين: إزميت شرق إسطنبول وبرج حمود شرق بيروت. حتى سنوات قليلة، كانت تحيا حياة فتاة تركية مسلمة، إلى أن اكتشفت أنها تتحدر من أصول أرمنية. تقول: “تحت الضغط وحفاظاً على حياتهم، اعتنق أجدادي الدين الإسلامي”، راوية قصة بحثها عن هويتها، ومجيئها إلى لبنان، وتحديداً إلى برج حمود ذات الأكثرية الأرمنية، لتتعلم اللغة الأرمنية.
تقول فاطمة لموقع “963+”: “أتنقل الآن بين تركيا ولبنان، لكنني أخاف الإفصاح عن هويتي الأرمنية في تركيا، خصوصاً أنني أعيش وأعمل في منطقة تسود فيها التيارات والأحزاب القومية التركية والإسلامية”، مشددة على ضرورة الاعتراف بالإبادة التي تعرض لها الأرمن وعدم نكرانها.
تصادف في هذا العام الذكرى التاسعة بعد المئة للإبادة الأرمنية. ففي عام 1915، قتل العثمانيون أكثر من مليون أرمني، وهجّروا أعدادًا كبيرة من الأرمن، توجهوا حفاة إلى أقاليم مجاورة، وخصوصاً إلى سوريا ولبنان.
ما كانت تلك الحادثة هي الأولى بحق الشعب الأرمني، إنما سبقها “المذبحة الحميدية” – نسبة إلى السلطان العثماني عبد الحميد – بين عامي 1894 و1896، وراح ضحيتها نحو 150 ألفاً بحسب معهد التاريخ الأرمني. وحلت بالأرمن مذبحة ثانية في عام 1909، راح ضحيتها 30 ألفاً بحسب أرقام المعهد نفسه.
بعد قرن من الإبادة
غيّرت هذه الأحداث بنوداً في القانون الدولي. يُبدي المحامي الشهير رفائيل ليمكين اهتماماً واسعاً في ضرورة صوغ قوانين دولية “تحمي الجماعات وتحاسب المعتدين”، وهو صاحب مصطلح “الإبادة الجماعية” الذي دُوّن في القانون الدولي في عام 1943، انطلاقاً من تداعيات الإبادة الجماعية التي تعرض لها الأرمن.
وفي حديث خاص لـ “963+”، يقول الباحث والمحلل السياسي والاجتماعي سيروج أبيكيان إن في عام 1915، قتل نحو 70 في المئة من الشعب الأرمني، “ونحن مدينون لأرواحهم، لأننا أحفاد من نجا منهم، نحمل هذه القضية على كواهلنا، ونناضل لتحقيق حقّ أسلافنا في العيش الآمن”.
يضيف أبيكيان: “صارت هذه القضية إرثاً ينقله كل أرمني إلى أولاده، فلا تتلاشى ذكراها كما يعتقد البعض، إنّما تتعاظم أكثر وأكثر. وما نقوم به هو أنّنا نذكّر الآخرين بما حصل في ذلك الحين، علماً أن الإبادة مستمرّة حتّى يومنا الحالي”.
يقدر عدد الأرمن في العالم اليوم بنحو 10 ملايين نسمة، ينتشرون في سوريا ولبنان والأردن وإسرائيل وإيران، كما في معظم دول أوروبا وفي الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وروسيا. ويؤكد أبيكيان أنّ السلطنة العثمانية التي سيطرت على الأراضي الأرمنية نحو 600 عام، “اتّخذت آنذاك قراراً سياسياً له غطاء ديني، يقضي إبادة الأرمن”. وبحسبه، تتملّص السلطات التركية الحالية من المسؤولية، وتصنّف هذه الواقعة على أنّها حدثٌ تاريخيٌّ له ظروفه المحيطة به، “فيما يصرّ الأرمن على أنّه حدثٌ سياسيٌّ يستدعي معاقبة المسؤولين عنه”.
يتحدث يغيا طاشجيان، منسّق الشؤون الدولية في “معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدولية”، عن البُعد السياسي لذكرى الإبادة الأرمنية، فيقول لـ “963+” إن إحياءها يوازي النضال الأرمني المستمرّ ضد رفض تركيا الاعترا بالإبادة، مؤكداً أن الأرمن مستمرون في النضال “خصوصاً بعد التطهير العرقي الذي مارسته أذربيجان بدعم من أنقرة لنحو 100 ألف أرمني في إقليم أرستاخ (ناغورنو كره باغ)، فهذا زاد الأرمن إصراراً على إحياء الذكرى، كما في كلّ عام”.
واقع الاعتراف بالإبادة
ساهم ليمكين في دفع الأمم المتحدة إلى إبرام اتفاقية دولية في عام 1948، تمنع جرائم الإبادة بحق أي جماعة وتعاقب مرتكبيها. حدّدت هذه الاتفاقية العناصر المفترض تواجدها في الجريمة لتُصنّف إبادةً، ومنها وجود نيةٍ متعمدة لارتكاب جريمة الإبادة، ودليلٍ على التخطيط لارتكابها”، إضافة إلى القيام بأفعال قتل أو إيذاء جسيمة، تتخللها أعمال قتالية واسعة النطاق. يقول أبيكيان: “نفذ الأتراك هذه العناصر كلها في عام 1925″، مشدداً، في الوقت عينه على صعوبة تطبيق الاتفاقية على الإبادة الأرمنية، إذ “لا تتمتع بمفعول رجعي”.
بدوره، يشدد طاشجيان على “أن محكمة العدل الدولية والمحكمة الجزائية الدولية التي نشأتا بعد الإبادة لم تأخذا القضية على عاتقيهما للسبب نفسه. وحتّى لو قامتا بذلك، فإنهما ستصدران أحكاماً على أموات”.
بدلاً عن ذلك، جاء اعتراف الأمم المتحدة بالإبادة الجماعية للأرمن، واعتراف غيرها من المنظمات الدولية كالبرلمان الأوروبي ومنظمات حقوق الإنسان، ونحو 20 دولة بينها الولايات المتحدة الأميركية وسوريا ولبنان، نوعاً من الضغط السياسي على تركيا للإقرار بحصول الإبادة.
في هذا الإطار، يشير أبيكيان إلى أهمية نشاط “اللوبي الأرمني” في انتزاع المزيد من الاعترافات الوازنة لتدعيم القضية الأرمنية. وبحسبه، “السبيل الوحيد هو الضغط السياسي، واعتراف المزيد من الدول الأوروبية، نظراً لما لهذا الأمر من تأثير سياسي كبير على تركيا”.
أمّا طاشجيان، فيذكر في حديثه لـ “963+” أن لا شيء يعوّض الأرمن إن لم يحصلوا على اعتراف رسمي من تركيا، “حتى ولو اعترف العالم بأسره بالإبادة”.
الحفاظ على الهوية
قبل مذبحة عام 1915، كان الأرمن موجودين في سوريا ولبنان وغيرهما، إلا أن هجرتهم الكثيفة بدأت خلال الإبادة وبعدها. يرى أبيكيان أن “وجود الأرمن بوصفه عنصراً سابقاً على تأسيس دولتي سوريا ولبنان لم يهدد هذين الكيانين الناشئين، بل شعر الأرمن بالانتماء في سوريا ولبنان، حيث يسود التنوع الطائفي والتعايش بين الجماعات الإثنية المختلفة”.
يُقدر عدد الأرمن الذين عاشوا في سوريا قبل اندلاع الحرب في عام 2011 بنحو 150 ألفاً، بحسب منظمة “الشتات الأرمني”، إضافة إلى 156 ألف أرمني يعيشون في لبنان بحسب منظمة “حقوق الأقليات” العالمية. إلا أن أعدادهم تضاءلت جداً، خصوصاً في سوريا، حيث لا يتجاوز عددهم 14 ألفاً فقط بحسب “تجمع الكنائس الأرمنية”.
يشير طاشجيان إلى الطابع المؤسساتي للمجتمع الأرمني، ودور مدارسه وكنائسه ومؤسساته، في تمكين الشعب الأرمني من المحافظة على ثقافته على الرغم من انتشاره حول العالم، “فالمحافظة على الهوية الأرمنية وإعادة إحياء مقوماتها عملية تتطلب جهداً جبّاراً ينجزه الأرمن أينما تمركزوا، من خلال الجمعيات المتنوعة التي تعتمد اللغة الأصلية وتحيي الفن واختيار الألوان والموسيقى الأرمنية، وذلك على الرغم من القمع الذي يتعرضون له”.
ومنذ عام 2019، انعكست الأزمة الاقتصادية الحادة في لبنان على الأرمن، فغادر كثير منهم إلى أرمينيا أو إلى دول أخرى، فيما يلفت طاشجيان إلى أن عدداً كبيراً من الأرمن قرّر الهجرة إلى أوروبا واستراليا وأميركا من دون أي قرار بالعودة، “الأمر الذي ينطبق على الأرمن في سوريا كذلك، نظراً لعامل الحرب فيها”.
ويذكّر أبيكيان بالإجراءات التي تتخذها الدول المسيطرة على الأراضي الأرمنية، مثل تركيا وأذربيجان، فيقول: “تلجأ أولاً إلى تحويل الكنائس إلى مساجد، ثم تهدم الآثار الثقافية ثانياً، وتنتهك حرمة المدافن، وتبني فوقها مراكز جديدة ثالثاً، تماماً كما يحصل الآن في إقليم أرتساخ الأرمني الذي سيطرت عليه أذربيجان”.
يمتلك شانت مسروبيان (77 عاماً) وأولاده الثلاثة متجراً لبيع الذهب في منطقة الأشرفية في بيروت. يروي
لـ “963+” أن أجداده سكنوا قرب بحيرة وان شرق تركيا، وتمّ تهجيرهم إلى مدينة حلب خلال الإبادة، “حيث أحرق الأتراك منازلنا وقتلوا أقاربنا، فسكن والدي فترة في حلب، ثم انتقلنا للعمل في بيروت في خمسينيات القرن الماضي”.
لا يرى مسروبيان تحقق العدالة لشعبه إلا بتحمل تركيا مسؤولية الإبادة، “فالأتراك قتلوا مليوناً ونصف مليون أرمني في ثلاثة أشهر”. يضيف: “لا أؤمن بأن القانون الدولي سيمنحنا حقوقنا، لكن ربما تنصفنا السياسة الدولية يوماً”.