كشفت وكالة رويترز يوم الأربعاء الماضي، أن الولايات المتحدة أعطت الضوء الأخضر لمبادرة من قطر لتمويل رواتب موظفي القطاع العام السوري باستثناء وزارتي الداخلية والدفاع في الحكومة الانتقالية، حيث كانت الدوحة مترددة في اتخاذ الإجراء دون موافقة واشنطن التي تفرض عقوبات على سوريا منذ عهد نظام بشار الأسد المخلوع، في خطوة ينظر إليها على المدى القريب بأنها إيجابية وستساعد في دعم وتحسين مستوى المعيشة للطبقة الوسطى التي كانت أبرز المتضررين خلال سنوات الحرب، وسط تساؤلات بشأن انعكاساتها على الوضع الاقتصادي المتردي بشكل عام، وهل ستساهم في دعم التعافي؟
نقلت وكالة رويترز عن ثلاثة مصادر، أن قطر تلقت مؤخراَ إشعاراً من واشنطن بالموافقة على المضي قدماً في المبادرة، وقال مصدران مطلعان على الملف إن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية سيصدر قريباً خطاباً يؤكد فيه إعفاء المبادرة القطرية من العقوبات الأميركية، في خطوة ينظر إليها بحسب محللين على أنها تؤشر على تبدل نسبي في الموقف الأميركي من الحكومة السورية الانتقالية، رغم اشتراط حصر التمويل بالموظفين المدنيين دون موظفي وزارتي الدفاع والداخلية، ما يعكس استمرار التحفظات تجاه خلفية السلطات التي تتولى الحكم حالياً في سوريا.
وأثنى وزير المالية في الحكومة السورية الانتقالية محمد يسر برنية أمس الخميس، على المنحة القطرية، وأكد أن الدوحة ستقدم 29 مليون دولار شهرياً مخصصة لتغطية رواتب العاملين في قطاعات الصحة والتعليم والشؤون الاجتماعية والمتقاعدين غير العسكريين، متوجهاً بالشكر لوزارة الخزانة الأميركية على سرعة الاستجابة لتسهيل المنحة واستثنائها من العقوبات، بحسب ما نقلت وسائل إعلام سورية.
اقرأ أيضاً: الخارجية الأميركية: المنحة القطرية لسوريا لا تعني تحولاً في موقف واشنطن
تعزيز القوة الشرائية
يقول الخبير الاقتصادي وعميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا في لبنان بيار الخوري، إن “التمويل القطري للرواتب في سوريا سيعزز القوة الشرائية للأسر السورية، وخاصةً في المناطق التي تعتمد على الوظائف الحكومية، وهذا سيترجم إلى زيادة الطلب على السلع الأساسية مثل الغذاء والدواء، مما قد ينعش حركة السوق المحلي، لكن هذا التحسن قد يكون محدوداً لسببين، الأول هو احتمالية ارتفاع الأسعار نتيجة زيادة الطلب دون نمو مواز بالعرض خاصةً مع استمرار صعوبات الاستيراد بسبب العقوبات، والثاني هو أن الزيادة لا تعوض بشكل كامل معدلات التضخم المرتفعة التي تجاوزت 140% في عام 2023، مما يقلص الفائدة الحقيقية للأسر”.
تأثير مزدوج على سعر الليرة
ويضيف الدكتور الخوري في تصريحات لموقع “963+”، أنه “على صعيد سعر صرف الليرة السورية، فإن ضخ الأموال قد يُحدث تأثيراً مزدوجاً، حيث أنه إذا دخل التمويل بالعملة الأجنبية (كالدولار)، واستُخدم جزء منه لدعم الاحتياطيات، فقد يساهم في استقرار نسبي لسعر الصرف على المدى القصير، لكن إذا تم تحويل هذه الأموال إلى ليرة سورية لصرف الرواتب دون آلية لامتصاص السيولة المحلية، فقد يؤدي ذلك إلى زيادة المعروض النقدي، مما يضغط على الليرة ويُعمّق انهيارها”، مشيراً إلى أن “تجربة عام 2022 مع التمويل الإماراتي المحدود أظهرت أن التأثير على سعر الصرف يكون طفيفاً إذا لم يُصاحب التمويلَ إجراءاتٌ لدعم الاحتياطيات أو ضبط السيولة”.
وأوضح وزير المالية في الحكومة الانتقالية، أن “المنحة المقدمة من قطر ستدار من قبل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وستغطي قرابة خمس فاتورة الأجور والرواتب الحالية في القطاع العام”، فيما تحدثت المصادر لرويترز عن أن الحكومة ستتكفل بتأمين الفارق المطلوب لتمويل زيادات الرواتب للموظفين الذين لا تشملهم المبادرة المدعومة من قطر، التي من المتوقع أن يبدأ صرفها ابتداءً من شهر حزيران/ يونيو المقبل، ما يسمح بزيادة تدريجية للرواتب تصل إلى 400% لأكثر من مليون موظف.
تحذير من زيادة في السيولة
من جانبه، يرى الاستشاري الاقتصادي في شركة “آي بي إس” للاستشارات في لندن علي متولي، أن “الدعم القطري ممكن أن يساهم في استقرار سعر صرف الليرة السورية الذي شهد خلال الفترة الأخيرة تحسناً وصل إلى نسبة 64% حيث وصل سعر الصرف إلى 10000 ليرة للدولار الواحد بعد أن كانت يساوي الدولار أكثر من 15000، وذلك نتيجة عدة عوامل أبرزها شح السيولة وتشديد الرقابة على المضاربات”.
لكن متولي يحذر خلال تصريحات لموقع “963+”، من أن “الزيادة الكبيرة في الرواتب يمكن أن تؤدي لزيادة السيولة في الليرة السورية، ما قد يشكّل ضغطاً على سعر الصرف في حال لم يتم التحكم في الكتلة النقدية بشكل فعال”.
وبشأن تأثيراتها على احتياطات القطع الأجنبي في البلاد، يوضح الخوري، أن “المنحة إذا كانت بالدولار فقد تخفف مؤقتاً من أزمة النقد الأجنبي، التي تقدر احتياطاتها بأقل من مليار دولار حالياً، ما قد يسمح بزيادة استيراد السلع الأساسية مثل القمح والوقود، والتي تعتمد عليها سوريا بنسبة تصل إلى 70% من احتياجاتها، لكن العقوبات الغربية خاصةً قانون قيصر، ستظل عائقاً أمام تحويلات العملة الأجنبية واستيراد السلع، ما قد يقلل من الأثر الفعلي للتمويل حتى لو توفرت الاحتياطات”.
اقرأ أيضاً: صندوق النقد الدولي يختبر التوازنات الدولية في سوريا
مخاوف من التضخم
ويؤكد، أن “زيادة السيولة المحلية بالليرة السورية ستكون إحدى التحديات الرئيسية، مع تضخم كتلة النقد المحلي بأكثر من 40% خلال 2023، فإن ضخ سيولة إضافية دون آليات امتصاص (مثل رفع أسعار الفائدة أو إصدار سندات) سيُغذي التضخم بشكل أكبر، حيث أن البنك المركزي السوري يعاني أصلاً من محدودية الأدوات النقدية الفعالة، إذ بلغت أسعار الفائدة الحقيقية السالبة 130% في 2023، مما يُقلل الحوافز للادخار ويُعقّد إدارة السيولة”.
وتزامن الإعلان عن التمويل القطري لرواتب القطاع العام، مع زيارة رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع، إلى فرنسا ولقائه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ومطالبة الأخير بضرورة التوصل إلى عملية سياسية شاملة في سوريا دون إقصاء لأي طرف، والانخراط في محاربة الإرهاب وحماية جميع السوريين، ودعم باريس لرفع العقوبات الغربية المفروضة على البلاد بما في ذلك الأميركية.
ويشدد الخوري، على أنه “على المدى المتوسط، قد يُحفز التمويل القطري بعض النشاط الاقتصادي عبر زيادة الاستهلاك، لكنه لن يُعالج الأسباب الجذرية للأزمة، فالاقتصاد السوري فقد ما يقارب 70% من ناتجه المحلي الإجمالي منذ 2011، مع انهيار القطاعات الإنتاجية واعتماد 90% من السكان على المساعدات الإنسانية، لذلك فإنه بدون إصلاحات هيكلية في البنية التحتية ومكافحة الفساد، وإعادة تأهيل القطاعات الإنتاجية، سيظل النمو الاقتصادي معتمداً على المساعدات الخارجية الهشة”.
ويشير، إلى أن “المقارنة مع تجارب سابقة تُظهر نمطاً متكرراً من التأثيرات المحدودة، على سبيل المثال، التمويل الإيراني الذي قُدّر بنحو 3-4 مليارات دولار سنوياً بين 2013-2020 ساهم في دعم قطاعات محددة (كشراء النفط)، لكنه لم يمنع انهيار الليرة من 47 ليرة للدولار في 2011 إلى 12000 ليرة للدولار حالياً، لذلك فالفارق الرئيسي في التمويل القطري قد يكون في حجمه وطريقة إدارته، لكن العقوبات الدولية والفساد الداخلي سيظلان يحدان من فعاليته”.
الكاتب والباحث السياسي حسام طالب المقيم بالعاصمة السورية دمشق، يعتبر أن “تمويل قطر لرواتب القطاع العام سيمثّل دعماً إضافياً للحكومة السورية الانتقالية وسيعطيها دفعاً على مستوى الإدارة العامة والتوظيف بالبلاد حيث ستتم زيادة على الرواتب، وعليه سيكون هناك واقع أمني واقتصادي جيد في سوريا، وهو مؤشر على أن العامل الأميركي الضاغط على الدول لمنع دعم الحكومة بدأ يتراجع”.
ويؤكد خلال تصريحات لموقع “963+”، أنه “رغم أن قطر لديها صداقة مع الشعب السوري ومع إدارة رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع، إلا أنه لا توجد دولة في العالم تعمل كجمعية خيرية، لذلك هي تسعى لأن يكون لها دور في عمليات إعادة إعمار سوريا التي أصبح فيها كل شيء مدمر، وجميع الدول تسعى للمساهمة في هذه العمليات بما يعود عليها هي أيضاً بالأرباح”.
بدوره، يقول الباحث في العلاقات الدولية عمرو حسين لموقع “963+”، إن “تمويل قطر لرواتب الموظفين في سوريا يحمل أبعاداً سياسية واقتصادية هامة، حيث أن توفر السيولة بالليرة لا يزال مرتبطاً بشكل كبير بإمدادات روسيا، وهو ما يمنح الأخيرة ورقة ضغط إضافية يمكن استخدامها سياسياً واقتصادياً في أي مفاوضات مستقبلية”.
ويضيف، أن “منح الولايات المتحدة الترخيص لقطر يشير إلى وجود توافق ضمني على إمكانية استخدام هذا التمويل كوسيلة لتمرير مشاريع سياسية واقتصادية معينة، سواءً من قبل قطر أو حليفتها تركيا، فقد تستغل الدوحة هذه الخطوة لتعزيز حضورها السياسي بالملف السوري”.