عبد الرحمن أياس
سوريا، التي كانت تُعَد واحدة من أبرز اقتصادات المنطقة قبل حربها، تعرّض اقتصادها إلى دمار هائل على مدار عقود، ولاسيما في ظل حكم بشار الأسد بين عامي 2000 و2024.لقد عاشت البلاد خلال حكمه فترات من الركود والفساد المستشري ما أدى إلى تدمير البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية، ومع بداية الحرب عام 2011، فاقمت هذه الظروف من تدهور الاقتصاد ليصل إلى مستويات كارثية، وكان من المتوقع للاقتصاد أن ينهار بالكامل.
قبل عام 2011، كانت سوريا تعتمد على عدد من القطاعات الاقتصادية المهمة التي شكلت أعمدة اقتصادها. كان النفط من أكبر مصادر الإيرادات، إذ ساهم بنحو 25 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي وكانت للزراعة نسبة مماثلة. وكانت سوريا تملك قطاعاً صناعياً محدوداً، لكنه كان ينمو في صورة تدريجية، وخصوصاً في مجالات مثل النسيج والمعدات الخفيفة. علاوة على ذلك، كانت السياحة تمثّل مصدراً مهماً آخر للعملة الصعبة، ولاسيما في المدن التاريخية مثل دمشق وحلب.
لكن، منذ بداية حكم الأسد، بدأت المشاكل الاقتصادية تتزايد بسبب السياسات الاقتصادية الفاشلة، والفساد الواسع الانتشار، وغياب التنمية المستدامة. وواصلت هذه المشاكل التفاقم مع مرور الوقت، إذ شهدت البلاد عجزاً كبيراً متوالياً في الميزانية وتدهوراً في القطاع العام. ذلك أن قوانين الأسد الاقتصادية استهدفت في شكل أساسي تقوية قبضته على السلطة من خلال تخصيص موارد الدولة لمصلحة كبار الشخصيات المحسوبين عليه، ما أضعف قدرة الاقتصاد السوري على تحقيق نمو حقيقي.
بدأت الحرب في سوريا عام 2011، وباتت نقطة فاصلة في تاريخ البلاد. اندلعت الاحتجاجات الشعبية ضد نظام الأسد في مارس (آذار) من ذلك العام، لتتحول سريعاً إلى نزاع مسلح طويل الأمد. وفي غضون سنوات قليلة، أصبحت سوريا أمام أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخها. وفق تقديرات البنك الدولي، انخفض الناتج المحلي الإجمالي لسوريا بنسبة 85 في المئة بين عامي 2011 و2024، ليصل إلى تسعة مليارات دولار فقط بعدما بلغ 67.5 مليار دولار عام 2011. هذا الانخفاض الحاد في الناتج المحلي دفع بالاقتصاد السوري إلى الحضيض، وأدى إلى انعدام الاستقرار المالي، العام والخاص، في صورة شبه كاملة.
كان قطاع النفط أحد أكثر القطاعات تضرراً خلال الحرب. عام 2011 فقدت الحكومة السورية السيطرة على معظم حقول النفط، التي استولت عليها مجموعات مسلحة، بما في ذلك تنظيم “داعش” والقوات الكردية. وتراجع إنتاج النفط إلى أقل من تسعة آلاف برميل يومياً، علماً بأنه كان قد انخفض لأسباب تقنية في شكل مطرد من ذروة بلغت نحو 610 آلاف برميل يومياً عام 1995 إلى ما يقرب من 385 ألف برميل يومياً عام 2010. ونتيجة لذلك، أصبح الاقتصاد السوري يعتمد في صورة رئيسية على استيراد النفط من إيران، التي كانت تقدم إلى نظام الأسد دعماً مالياً. وبذلك فقدت سوريا مصدر دخلها الأساسي وأصبحت أكثر عرضة إلى الضغوط الخارجية.
إلى جانب ذلك، تضررت الزراعة في شكل كبير في ظل الحرب الطويلة، إذ أصبحت الأراضي الزراعية عرضة إلى القصف والتدمير، وأدى انعدام الأمن إلى تدهور إنتاج الغذاء. كانت سوريا، قبل الحرب، تُعتبَر من أهم منتجي الحبوب في المنطقة، لكن مع تدمير المزارع والهجرة الواسعة من المناطق الريفية، أصبح إنتاج الحبوب في البلاد لا يكفي لتلبية احتياجات السوق المحلية.
تُضَاف إلى هذه الأزمات آثار العقوبات الدولية المفروضة على سوريا منذ عام 2011. كانت العقوبات تهدف إلى الضغط على نظام الأسد، لكنها أسفرت عن تداعيات خطيرة على الاقتصاد السوري. لقد أدت إلى شل قدرة الحكومة على تصدير النفط والمنتجات الأساسية، كما حرمت البلاد من الوصول إلى الأسواق المالية العالمية. ومع فقدان القدرة على تصدير النفط والمنتجات الأخرى، واجهت سوريا أزمة سيولة خانقة، ما أدى إلى تدهور عملتها في صورة كبيرة، إذ فقدت الليرة السورية نحو 99 في المئة من قيمتها في مقابل الدولار الأميركي.
وكانت سوريا شهدت خلال عهد حافظ الأسد (1970-2000) وعهد حزبه، البعث (بدأ عام 1963)، تحوّلات اقتصادية كبيرة تباينت بين الإيجابيات والسلبيات. من الإيجابيات، تحقيق الاستقرار السياسي نسبياً منذ عام 1970، ما أتاح استغلال الموارد الطبيعية مثل النفط والغاز، إضافة إلى الاستثمار في البنية التحتية كمشاريع الري والسدود، مثل سد الفرات الذي ساهم في تحسين الزراعة وتوفير الكهرباء. وارتبطت تلك الحقبة بتوسيع دور الدولة في الاقتصاد من خلال سياسات التأميم ودعم المنتجات الأساسية، ما ساهم في تحسين مستويات المعيشة لبعض الفئات.
لكن في المقابل، أفرزت هذه السياسات سلبيات كبرى، أبرزها الفساد المستشري والمحسوبية التي عرقلت التنمية. وأدى تركز السلطة في يد الطبقة الحاكمة إلى إهمال القطاع الخاص وتهميش الكفاءات الاقتصادية، ما أضعف النمو وأدى إلى اعتماد مفرط على الاقتصاد الريعي. وتسبب الإنفاق العسكري الضخم بغرض المشاركة في نزاعات إقليمية في استنزاف الموارد، ما ألقى بظلال سلبية على التنمية المستدامة.
اليوم، بعد سقوط نظام البعث-آل الأسد، وعلى رغم هذا الدمار الهائل، ثمة آمال ضئيلة في أن تتمكن سوريا من إعادة بناء اقتصادها في المستقبل. ولا شك في أن عملية إعادة الإعمار ستكون طويلة ومعقدة، وتحتاج إلى تضافر العديد من الجهود المحلية والدولية. ومن نافل القول إن الاهتمام بالتنمية الزراعية والصناعية المحلية يجب أن يكون في مقدمة الأولويات. لكن قبل ذلك، لا بد من استعادة الأمن وتحقيق الاستقرار، عندئذ يمكن أن تبدأ سوريا في إعادة بناء أسس الاقتصاد من خلال مشاريع محلية في القطاعات المدمرة، مثل الزراعة والنسيج.
هذا ويدرك الجميع أن البناء على المستوى المحلي وحده لن يكون كافياً، فإعادة بناء سوريا تتطلب تدفق الاستثمارات الأجنبية، وهو أمر مشروط برفع العقوبات الدولية. في هذا الصدد، تتجه الأنظار إلى القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة، وكذلك إلى الدول الإقليمية مثل دول الخليج وتركيا، التي قد تؤدي دوراً في دعم إعادة إعمار سوريا. لكن رفع العقوبات الدولية، الذي بدأ غربياً ولو في وتيرة بطيئة، قد يفتح الباب أمام استثمارات كبيرة في البنية التحتية، وخصوصاً في قطاعي الطاقة والمياه.
من المهم أيضاً أن يتواكب ذلك مع إصلاحات حقيقية في النظام السوري، من شأنها ضمان الاستقرار السياسي والاقتصادي. قد يشمل ذلك التوصل إلى تسوية سياسية بين مختلف القوى المحلية من أجل بناء توافق حول مستقبل سوريا. ذلك أن أي إصلاحات حقيقية تحتاج إلى قيادة سياسية قادرة على اتخاذ قرارات صعبة وصحيحة، بعيداً عن التجاذبات الطائفية والعرقية التي ساهمت في النزاع الحالي.