في محافظة دير الزور، حيث يشق نهر الفرات طريقه كحبل حياة يفصل الضفة عن الأخرى، تحوّلت العبارات النهرية من وسيلة تنقّل يومية إلى مصدر خوف دائم، بسبب تكرار حوادث الغرق المأساوية. مع دمار الجسور البرية التي كانت تربط ضفتي المدينة خلال سنوات الحرب، أصبحت هذه العبارات، رغم بدائيتها، هي الخيار الوحيد أمام الأهالي للعبور من منطقة إلى أخرى، لا سيما في الأرياف والبلدات النائية.
لكن هذا الاعتماد المتزايد ترافق مع تزايد حوادث الغرق، وسط غياب إجراءات السلامة والرقابة على وسائل النقل النهري، لتتحول كل رحلة نهرية إلى مقامرة قد لا يعود منها الإنسان حيّاً.
اقرأ أيضاً: مأساة معبر هجين العباس شرقي سوريا: من موتٍ إلى موت – 963+
أمهات ثكلى وأرواح فُقدت
أم علي، سيدة من دير الزور، فقدت ابنها البالغ من العمر 14 عاماً في حادث غرق عبارة قبل نحو شهرين، تتحدث والدموع في صوتها: “لا يمكنني وصف الألم الذي أشعر به كل يوم. كان ابني الوحيد وقد كان له مستقبل مشرق. نحن بحاجة إلى تغيير حقيقي لضمان سلامة الجميع في النهر”.
وتضيف بحرقة لموقع “963+”: “نحن نطالب السلطات بتوفير ممرات برية أو إصلاح الجسور، أو على الأقل، تأمين قوارب آمنة وتدريب الطاقم على حالات الطوارئ. لا نريد أن نفقد المزيد من الأرواح. بعد 14 سنة من الحروب والشتات، عدنا لنحلم بالحياة، لكننا نخسر أبناءنا بسبب العبارات المتهالكة”.
هذه المأساة تتكرر يومياً. ففي مدينة هجين، يضطر أبو محمد، وهو أب لخمسة أطفال، إلى عبور النهر يومياً للوصول إلى عمله في سوق الخضار بمدينة الميادين. يقول بحذر ممزوج بالخوف لـ”963+”: “كل صباح أخشى أن تكون رحلتي إلى العمل هي الأخيرة. العبارة مكتظة بالناس والأمتعة، وأحياناً ينقلون فيها أغناماً ومواد بناء. المياه تتدفق بقوة، والعبار يصرخ فينا أن نتحرك حتى لا تنقلب العبارة”.

ويضيف وقد ارتجف صوته وهو يروي حادثاً حديثاً: “قبل أيام غرق طفلان أثناء محاولتهما العبور. لم نعثر على جثتيهما إلا بعد يومين. رأيت والدتهما تبكي على الشاطئ. النهر ابتلع مستقبلهما”.
أم خضر من بلدة خشام، فقدت ابنها البالغ من العمر 18 عاماً في حادث مشابه، أثناء عودته من مدرسته في مركز مدينة دير الزور. تروي قصتها بحرقة: “ابني كان يقول لي: ‘أنظر إلى النهر كل يوم وألعن الظلم.’ بعد موته، لم نجد جثته كاملة، فقد أخذ التيار جزءاً منها. العبارات المتهالكة قتلت ابني”.
ورفضت أم خضر تعويضاً مالياً عرضته بعض الجهات المسؤولة عن العبارات، مؤكدة: “دم ابني لا يُعوّض. كل ما أطلبه هو محاسبة العبارين غير المرخصين أو الذين لا يملكون تدريباً. على كل أم ألا تسمح لأطفالها بالعبور إلا مع زوارق موثوقة. النهر لا يرحم، والحكومة غائبة”.
اقرأ أيضاً: منسوب الفرات يتراجع: أزمة بيئية واقتصادية تهدد حياة الملايين – 963+
غياب التنظيم واحتكار الحياة
جابر المحمد، 38 عاماً، يملك ثلاث عبارات نهرية، ويعمل في هذا القطاع منذ نحو عام. لا يُنكر انتشار الخطر ويحمّل جزءاً منه لضعف الرقابة ويقول لـ”963+”: “70% من العبارات غير مرخصة. الناس يشترون قوارب مستعملة ويعملون بها دون أي خبرة. لو فرضت الحكومة رقابة صارمة، لاختفت هذه الكوارث”.
ورغم ذلك، يعترف بأن العمل في هذا المجال مجزٍ مادياً: “العمل مربح، لكنه مغامرة. الناس يحتاجون لعبور النهر، لكننا بحاجة لحلول بديلة مثل إصلاح الجسور أو إنشاء معابر آمنة”.
السلطات تعترف بالمشكلة.. ولكن!
في مجلس مدينة دير الزور، يوضح المهندس المدني عمار الفهد، في تصريحات لـ”963+” أن البنية التحتية تعاني من دمار شبه كامل، ويقول: “الجسور القديمة دُمرت بالكامل خلال الحرب، وإعادة بنائها تتطلب تمويلاً ضخماً وتأميناً للمنطقة من الناحية الأمنية. لدينا مشاريع مستقبلية، لكن التنفيذ بطيء جداً ويواجه تحديات كبيرة”.
وفيما يخص العبارات غير النظامية، يوضح الفهد أن هناك حملات تفتيش دورية، لكنه يعترف بضعف فعاليتها: “ننظم حملات لمراقبة العبارات غير المرخصة، لكن بعض العبارين يهربون إلى مناطق خارج السيطرة الإدارية. المسألة معقدة وتحتاج تعاوناً أمنياً واسع النطاق”.

ويضيف: “نتفهم معاناة الأهالي وغضبهم. نحن نوثق كل حادثة غرق ونتواصل مع منظمات إنسانية دولية ومحلية لتأمين حلول مؤقتة، مثل توفير عبارات مجهزة بسترات نجاة ومحركات حديثة، لكن هذه الحلول محدودة”.
اقرأ أيضاً: أطفالٌ مهرّبون عبر الفرات: مآسي الموت المُغري! – 963+
الأرواح تُزهق والنهر شاهد
تُعد حوادث الغرق في دير الزور ليست مجرد أرقام في سجل الإحصاءات، بل هي قصص مؤلمة لأسر فقدت أبناءها في لحظة عبور بسيطة، لم تكن لتشكل خطراً لو توفرت البنية التحتية الكافية. ومن بين كل هذه القصص، يبقى السؤال الأهم معلقاً في الهواء: إلى متى سيبقى نهر الفرات شاهداً صامتاً على الأرواح التي تبتلعها مياهه بسبب الإهمال وغياب الحلول الجذرية؟
وتتطلب أزمة النقل النهري في دير الزور تحركاً عاجلاً من الجهات المحلية والمركزية، وكذلك من المنظمات الدولية، لضمان توفير وسائل نقل آمنة ومجهزة، والتعجيل بإعادة بناء الجسور أو إنشاء ممرات بديلة. فالمسألة لم تعد تحتمل المزيد من الانتظار، خاصة حين يكون الثمن هو حياة الإنسان.
ففي بلد أنهكته الحروب والنزاعات، لا ينبغي أن يكون العبور اليومي لنهر، هو التحدي الأكبر الذي يهدد حياة السكان.