في خضم الجهود التي تبذلها الحكومة السورية بقيادة الرئيس أحمد الشرع لإعادة بناء الدولة بعد أكثر من عقد من الحرب السورية التي بدأت عام 2011، تبرز مسألة “الهوية الوطنية الجامعة” كأحد أبرز التحديات والاستحقاقات السياسية والاجتماعية. وفي هذا السياق، تلفت تجارب دول مثل ماليزيا وكندا وسويسرا الأنظار كنماذج ناجحة في إدارة التنوع وتحويله إلى مصدر قوة واستقرار.
الاعتراف الدستوري بالتعددية: نقطة الانطلاق
تشير هذه النماذج إلى أن الخطوة الأولى نحو بناء هوية وطنية متماسكة تمر عبر الاعتراف الدستوري بالتنوع الثقافي واللغوي والديني، وهو ما يمكن أن يشكل أساساً صلباً لصياغة عقد اجتماعي جديد في سوريا.
ففي كندا، أدرجت التعددية الثقافية في الدستور عام 1982، بينما تبنّت ماليزيا بعد اضطرابات 1969 سياسة “الرخاء المشترك” التي رفعت مشاركة الماليزيين الأصليين في الاقتصاد من 2.4% إلى أكثر من 19% بحلول عام 1990.
أما سويسرا، فاعتمدت منذ عام 1848 نظامًا فيدراليًا يضم 26 كانتونًا ويتمتع بصلاحيات واسعة، ويعترف بأربع لغات رسمية.
ويُعلّق الباحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية طارق عجيب، في تصريحات لـ”963+”، بأن بناء الهوية الوطنية في سوريا لا يمكن أن يقوم على أسس فئوية أو مرجعيات عقائدية، مؤكدًا أن “الهوية الوطنية تعني المواطنة الكاملة لكافة أفراد الشعب دون تمييز ديني أو عرقي أو مذهبي”، محذراً من تكرار تجارب الحكم الأمني أو الشعارات التي تفتقر إلى إرادة تنفيذ فعلية.
اقرأ أيضاً: الديموقراطية في سوريا: بين أزمة البنية الثقافية والهوية الوطنية – 963+
نماذج تعليمية وثقافية لترسيخ التسامح
في كل من كندا وماليزيا، لعبت السياسات التعليمية والثقافية دوراً محورياً في نشر قيم التسامح وتعزيز التعايش. ففي ماليزيا، يتم الاحتفاء بالتعددية من خلال تقاليد مثل “البيوت المفتوحة” التي تسمح لجميع المكونات بالاحتفال بأعيادها ضمن سياق وطني موحد، إلى جانب تبني نظم تعليمية واقتصادية شاملة. أما كندا، فقد اعتمدت مناهج تعليمية تشجّع على تقبّل الآخر والمشاركة المجتمعية، مع مؤسسات مثل ميثاق الحقوق والشرطة الملكية التي كرّست المواطنة كمفهوم جامع لا يستند إلى العرق أو الدين.
في هذا السياق، يرى الأكاديمي السوري المقيم في فرنسا، فايز نايف القنطار، أن إعادة بناء الهوية الوطنية تمر حصريًا عبر تأسيس دولة المواطنة والمساواة والحريات، مؤكداً لـ”963+” أن النظام السابق كرّس الطائفية كأداة حكم، مما أدى إلى “تمزيق المجتمع وضرب أسس الهوية الوطنية”، داعياً إلى إطلاق مشروع سياسي ديموقراطي يعترف بالتعدد ويكفل الحريات كشرط مسبق للتعافي الوطني.
فيدرالية مرنة تحمي الخصوصيات
النظام الفيدرالي كان أحد أبرز أدوات إدارة التعدد في كل من كندا وسويسرا، حيث ساعد في احتواء الهويات الإقليمية دون تهديد لوحدة الدولة. فحالة كيبيك في كندا وسعيها المستمر للاستقلال واجهها النظام السياسي بسياسات احتواء واعتراف ثقافي ولغوي، لا بالقمع. وفي سويسرا، سمح النظام الفيدرالي والديمقراطية التوافقية بتقاسم السلطة واحترام الفروقات، ما أرسى استقرارًا طويل الأمد.
لكن عجيب يحذّر من الطرح المتعجل لهذه النماذج في الحالة السورية، ويصفها بـ”الطوباوية والعاطفية”، معتبراً أن الفيدرالية قد تكون مقبولة فقط إذا صيغت بدستور ضامن يمنع التقسيم ويكرّس المواطنة في كل الأقاليم. من جهته، يرفض القنطار فكرة الفيدرالية.
ويرى فيها مقدّمة لتفتيت الدولة، داعياً إلى “نظام مركزي مرن” يتيح صلاحيات للإدارات المحلية دون المساس بوحدة التراب السوري.
الهوية الرقمية: جسر الثقة مع الدولة
من الابتكارات الملفتة التي يمكن لسوريا الاستفادة منها، تجربة ماليزيا في اعتماد نظام الهوية الرقمية الموحد (NDID)، الذي سهّل الوصول إلى الخدمات الحكومية وبنى الثقة بين المواطن والدولة، في وقت تحتاج فيه سوريا لإعادة ترميم علاقة المجتمع بالدولة على أسس شفافة وحديثة.
مصالحة وطنية وعدالة اجتماعية
التجربة السويسرية تبرز أهمية المصالحة الوطنية كأداة أساسية لبناء مجتمع متماسك، وذلك من خلال إشراك جميع الأطراف واحترام التنوع. وتُظهر هذه النماذج مجتمعة أن العدالة الاجتماعية والمساواة وتكافؤ الفرص ليست فقط متطلبات اقتصادية، بل شروط ضرورية لإعادة بناء النسيج الوطني.
وفي هذا الإطار، يؤكد عجيب أن العدالة الانتقالية يجب أن تُطبق دون استثناء، قائلًا: “لا يمكن بناء دولة على أساس العفو الانتقائي أو تبرئة طرف دون آخر، العدالة يجب أن تطال الجميع بلا استثناء”. ويشدد على أن أولى خطوات بناء الثقة تبدأ من فرض الأمن وتهيئة المناخ الاقتصادي لضمان انخراط الناس في مشروع الدولة الجديد.
اقرأ أيضاً: سوريا وضرورة بناء عقد اجتماعي جديد – 963+
سوريا: فرصة لإعادة صياغة الهوية
تنعكس أهمية هذه النماذج على الواقع السوري، حيث يشكّل العرب نحو 80% من السكان، تليهم المكونات الكردية (8%-13%)، إضافة إلى السريان والآشوريين والتركمان والدروز والعلويين والمسيحيين. وقد انخفض عدد المسيحيين من 2.2 مليون قبل 2011 إلى أقل من 700 ألف اليوم. هذا التنوع، إذا ما أُدير بسياسات متوازنة وشاملة، يمكن أن يتحول إلى مصدر غنى حضاري واستقرار سياسي.
يرى القنطار أن المشتركات الثقافية واللغوية في سوريا تفوق ما هو موجود في كندا أو سويسرا، وأن التعافي الوطني ممكن إذا توفرت بيئة سياسية تعترف بالتعدد وتكفل الحريات.
ويضيف: “حين ينشغل المواطن في البناء والمشاركة السياسية الحرة، تصبح الطائفية والمحاصصة من الماضي، وتتعافى الهوية الوطنية السورية الراسخة منذ أكثر من قرن”.
وتؤكد النماذج الدولية أن تعزيز الهوية الوطنية لا يتم عبر فرض هوية أحادية، بل عبر إدارة ذكية للتنوع، تدمج الاختلاف ضمن إطار وطني مشترك. وفي ظل التحديات السورية الراهنة، تمثل هذه التجارب خارطة طريق واقعية لبناء هوية سورية جديدة، تحتضن التعدد وتستمد منه قوتها ووحدتها.