يمثل الوصول إلى هوية وطنية جامعة في سوريا، أحد أبرز المسائل التي تتصدر المشهد خلال هذه الفترة، خاصةً بعد خروج البلاد من حرب طويلة استمرت أكثر من أربعة عشر عاماً، أعقبت حكماً وصف بالاستبدادي استمر لأكثر من خمسة عقود، وأثرت بشكل كبير على الواقع الاجتماعي إثر مقتل وإصابة ونزوح الملايين، أفرزت بدورها نتائج تتعلق بهواجس كل مكون وفئة بشأن ضرورة الحفاظ على الخصوصية الثقافية ضمن الإطار الوطني الجامع، وما يرافق ذلك من تحديات كبيرة، تتعلق بتأخر تطبيق العدالة الانتقالية في ظل الظروف الحالية خلال مرحلة إعادة البناء، وصولاً إلى الدستور المنشود أو العقد الاجتماعي الذي يقوم على احترام الحقوق والحريات وتعزيز مبدأ المواطنة المتساوية.
تحد كبير
التنوع الديني والمذهبي والعرقي الذي تتميز به سوريا، رغم أنه يعتبر مصدر إثراء كبير، إلا أنه يمثل أيضاً تحدياً كبيراً للمواطنين والسلطات على حد سواء، لاسيما في مراحل ما بعد الحرب، من حيث القدرة على جعل الولاء والانتماء الوطني متصدراً، بشكل لا يلغي ويحترم بشكل كبير الخصوصية الثقافية والدينية والعرقية لكل مكون، وهو ما يحتّم بالضرورة أن يكون الدستور هو المرجع الأساسي المحدد للحقوق والواجبات بين جميع السوريين والتأكيد على المساواة الكاملة بين الجميع، وعدم تغليب أي فئة على أخرى.
اقرأ أيضاً: تجييش طائفي يهدد السلم الأهلي والنسيج المجتمعي في سوريا – 963+
البحث عن هوية وطنية جامعة
يقول القاضي أنور مجني، المشرف على البرامج في مؤسسة “اليوم التالي” والمقيم في العاصمة السورية دمشق، إن “الهوية الوطنية الجامعة تبنى على عقد اجتماعي يشارك فيه الجميع، يجب أن يراعي مصالح ومخاوف الأفراد والمجموعات، وأن يتم التوصل إليه من خلال مسار حوار وطني حقيقي، يمكن من خلاله فهم مصالح ومطالب ومخاوف الجميع”.
ويضيف المجني لـ”963+”، أنه “يمكن من خلال بناء عقد اجتماعي، تكوين الهوية الوطنية الجامعة، والتي تتعزز بمفاهيم سيادة القانون، وحكم الشعب والديموقراطية وممارسة الحقوق المدنية والسياسية”، معتبراً أنه “من خلال هذا المفهوم، لا يوجد تعارض بين الهوية الوطنية السورية الجامعة والهويات الثقافية لكل مكون”.
وتسلط الأحداث التي شهدتها مناطق الساحل السوري في آذار/ مارس الماضي، وما رافقها من أعمال عنف على أساس طائفي تحدثت عنها تقارير حقوقية، الضوء على التحدي الكبير الذي تواجهه البلاد من حيث تجنب شرخاً مجتمعياً وحروب طائفية أو عرقية، وجعل الخطاب الوطني الجامع هو البارز، خاصةً في ظل التجييش الطائفي السائد على مواقع التواصل الاجتماعي، كما تؤكد الحاجة إلى عدالة انتقالية حقيقية تنصف الضحايا ويحاسب بموجبها مرتبكو الانتهاكات، حيث أسفرت تلك الأحداث عن مقتل أكثر من 1500 شخص اتهم عناصر بوزارتي الدفاع والداخلية السوريتين بالضلوع فيها بحسب تقرير لوكالة رويترز.
كيفية الوصول للهوية الوطنية الجامعة؟
ويؤكد المحامي محمد حسام السرحان، عضو مجلس إدارة مركز “الكواكبي للعدالة الانتقالية وحقوق الإنسان”، وعضو نقابة المحامين بإدلب لـ”963+”، أن “الوصول إلى هوية وطنية جامعة كما في البلدان المتحضرة ذات التنوع العرقي والديني، يوجب على السلطة إدخال مناهج تعليمية جديدة تحث على أهمية التنوع ودور كل ثقافة على اختلافها في خدمة وتقدم الوطن والمواطن، وتعزيز قيمة التنوع على أنه جزء من الهوية الوطنية، وضمان مشاركة عادلة لكافة المكونات الثقافية في الحياة السياسية”.
ويشدد، على أنه “يتوجب على السلطة القائمة التركيز على القيم الإنسانية المشتركة بين جميع المكونات كقيمة العدالة والمساواة والاحترام المتبادل واحترام حرية الرأي، والتي من خلالها يمكن بناء هوية وطنية جامعة تعزز وحدة المجتمع”، مشيراً إلى “ضرورة سن قوانين تجرّم التمييز والعنصرية وازدراء الأديان، وتطبيق هذه القوانين بشكل صارم، كأحد بنود بناء الهوية الوطنية الجامعة”.
وصادق الرئيس السوري أحمد الشرع في 13 آذار/ مارس الماضي، على الإعلان الدستوري في المرحلة الانتقالية المؤلف من 4 أبواب و53 مادة، والمتضمن أن “المواطنين متساوون أمام القانون بالحقوق والواجبات دون تمييز بينهم في العرق أو الدين أو الجنس أو النسب”، إلا أن الإعلان قوبل برفض وتنديد من قبل جهات سورية ومنظمات حقوقية، اعتبرت أن يثير المخاوف بشأن الوصول إلى نظام ديموقراطي وممارسة الحريات العامة، وأكدت الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا ومجلس سوريا الديموقراطية (مسد) أنه “غير شرعي”، فيما قالت الرئاسة الروحية لطائفة الموحدين الدروز إنه بحاجة إلى تعديل.
ومع إلغاء منصب رئيس الوزراء وحصر سلطات معينة بيد رئيس الدولة، بما في ذلك تعيين بعض أعضاء مجلس الشعب، قالت منظمة “هيومن رايتس ووتش” الحقوقية الدولية، إن الإعلان الدستوري في سوريا، يعرّض الحقوق للخطر، ويركّز السلطات في يد السلطة التنفيذية وقد يقوّض استقلالية القضاء.
اقرأ أيضاً: الديموقراطية في سوريا: بين أزمة البنية الثقافية والهوية الوطنية – 963+
الاعتراف بالهويات الثقافية
ويشدد السرحان، على أن “سوريا بحاجة إلى دستور جديد يراعي حقوق كافة مكونات المجتمع السوري على اختلاف قومياته وتنوعه الديني، معتمداً على مبادئ العدالة والمساواة والاعتراف بجميع المكونات الثقافية والدينية ويضمن حقوقهم كما يجب أن يضمن الأخذ بمعايير حقوق الإنسان المعترف بها دولياً إضافة لضمان للتعددية السياسية التي تسمح بتداول السلطة والتنافس عبر صناديق الإقتراع”.
ويرى أنه “من أجل الوصول إلى سلام مجتمعي لا بد من البدء بتطبيق برنامج العدالة الانتقالية والمحاسبة والمساءلة لكل من تلطخت إيديهم بالدم السوري، وجبر الضرر عن المتضررين خلال فترة الثورة وذلك بتعزيز ثقافة التسامح”، فيما يؤكد المجني، على أنه “لضمان تعزيز الهوية الوطنية والهويات الثقافية، على العقد الاجتماعي أن يراعي وجود قوميات وأديان وإثنيات متعددة، ويعطي المجال للمكونات لممارسة ثقافتها بما لا يتعارض مع الهوية الوطنية، ما يحتم إطلاق مسار حوار وطني يشارك فيه الجميع، يقود إلى بناء دستور يعزز الحقوق والحريات والرقابة على أعمال السلطة، وإنتاج قوانين تعزز المواطنة وحقوق الإنسان”.
وعليه، يمكن التأكيد أن هناك إجماعاً بين جميع السوريين، على ضرورة بلورة هوية وطنية جامعة لا تلغي ثقافات وهوية المكونات نابعة من دستور جديد أو عقد اجتماعي ينظم العلاقات ويحدد الحقوق والواجبات، رغم الصعوبات والتحديات الكبيرة التي تعترض ذلك، من غياب الثقة بين المكونات، والشرخ المجتمعي كأحد إفرازات الأزمة التي عاشتها البلاد على مدى أكثر من عقد.