إن سألت سورياً اليوم عن هويته، سيقول على الأرجح: “أنا عربي سوري”. فهذا الجواب ليس مجرد تعبير عن الانتماء، بل هو انعكاس لقرون من السياسات الرسمية التي فرضت مفهوم “الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة”، والذي تبنّاه حزب البعث منذ استيلائه على السلطة. لقد تَكرّس هذا المفهوم على مدى أكثر من خمسين عاماً في المناهج الدراسية، والإعلام، والخطاب السياسي، كهوية وحيدة جامعة، متجاهلاً واقع الشعب السوري المتعدد الأعراق والثقافات والأديان. وبذلك، أصبحت الهوية المفروضة أداة سياسية لخدمة أيديولوجيا معينة، لا تعترف بالتنوع، وتقصي ما سواه من مكونات المجتمع.
أما وقد ذهب البعث إلى غير رجعة، فإن خروج الشعب السوري على شعارات “الحزب” وقيادته القطرية لا يُعد لحظة سياسية عابرة، بل يمثل منعطفاً تاريخياً يستدعي مراجعة عميقة وشاملة للسياسات التي رُسّخت لعقود. إذ لا يكفي إسقاط النظام أو تراجع الخطاب البعثي، بل يجب اقتلاع الجذور الفكرية والإدارية التي غذّت سياسات التمييز والاحتكار القومي، والتي استُخدمت فيها العروبة كأداة لتسويق مواقف النظام في المحافل الدولية، وغطاء للهيمنة على القرار الداخلي. هذه السياسات ساهمت في تهميش مكونات أصيلة من المجتمع السوري، وعززت الانقسامات الطائفية والعرقية، بما مكّن السلطات من التحكم عبر تفريق المجتمع، وخلق حالة من الشك المتبادل وفقدان الثقة بين أبنائه.
وفي ضوء هذه الخلفية المعقدة، يبرز التحدي الأكبر أمام السوريين اليوم: إعادة بناء هوية وطنية جامعة، لا تستند إلى الإقصاء ولا تسعى إلى محو الخصوصيات الثقافية والدينية للمجتمع، بل تحترم التعدد وتُعلي من شأن المواطنة المتساوية. هذه المهمة تتطلب مشروعاً وطنياً متكاملاً يتجاوز الشعارات والمقاربات السطحية، ويبدأ بإصلاح جذري على المستويات الدستورية والقانونية، بحيث تُصاغ القوانين بما يعكس التعددية ولا يكرس فئة أو مكوناً بعينه.
كما يتطلب الأمر إطلاق حوار وطني شامل لا يُقصي أحداً، يضم مختلف مكونات المجتمع السوري: العرب، الأكراد، السريان، الشركس، التركمان، الدروز، العلويين، السنة، المسيحيين، والإسماعيليين وغيرهم.
هذا الحوار يجب أن يؤسس لمرحلة جديدة تقوم على الاحترام المتبادل، والتوافق على قيم مشتركة تؤسس لعقد اجتماعي جديد. إلى جانب ذلك، هناك ضرورة ملحة لإصلاح التعليم والإعلام، باعتبارهما الأداتين الأساسيتين في تشكيل الوعي الوطني، حيث يجب أن يُعاد بناء مناهج التربية بحيث تُعزز مفاهيم التعدد والمواطنة والانتماء إلى وطن واحد، لا إلى طائفة أو عرق أو منطقة.
اقرأ أيضاً: سلام الكواكبي لـ”963+”: لا مركزية فاعلة أو لا مركزية فعّالة إلا في نظام ديموقراطي – 963+
وتبرز العدالة الانتقالية كركن أساسي في هذه العملية، إذ لا يمكن بناء هوية وطنية جامعة دون الاعتراف بالانتهاكات التي طالت فئات مختلفة من السوريين، ومحاسبة المسؤولين عنها، وجبر الضرر عن الضحايا، سواء عبر التعويض، أو إعادة الاعتبار، أو الاعتذار الرسمي. ذلك أن تجاهل آلام الماضي يهدد أي مشروع وطني بالفشل ويزرع بذور التنافر من جديد.
والأهم من ذلك كله، أن يُعاد تعريف الهوية السورية بعيداً عن الانتماءات الضيقة، سواء كانت طائفية أو مناطقية أو قومية، لصالح صيغة سياسية مدنية تنبثق من قيم المواطنة، والعدالة، والحرية، والتعددية. إن نجاح هذا التحول يتطلب تخلي القوى السياسية والاجتماعية عن مصالحها الفئوية، ووضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار، والعمل بجد على بناء دولة مدنية ديموقراطية، تكون نموذجاً يحتذى في التعايش والاحترام المتبادل.
في هذا السياق، المطلوب اليوم هو تعزيز التعددية الثقافية بشكل فعّال، ليس فقط عبر الاعتراف بها نظرياً، بل بضمان كفالة الدولة للتنوع الثقافي من خلال التشريعات والمؤسسات. كما يجب وضع آليات رقابة ومحاسبة حقيقية تحول دون عودة الاستبداد بأي شكل، مع التركيز على المصالحة الوطنية الشاملة، التي لا تكتفي بتسويات سياسية سطحية، بل تتعامل بجدية مع القضايا الجذرية التي فجّرت النزاعات.
اقرأ أيضاً: تجييش طائفي يهدد السلم الأهلي والنسيج المجتمعي في سوريا – 963+
كذلك، لا بد من طرح نقاشات وطنية عميقة حول شكل نظام الحكم القادم، والموقف من التنوع الثقافي، وتوزيع السلطات، وضمان المشاركة السياسية العادلة، وتعزيز استقلالية القرار الوطني بعيداً عن أي تبعية خارجية. كما أن حماية مقدرات الدولة وإعادة بناء ما دمرته الحرب ليست مجرد مهام تقنية، بل جزء لا يتجزأ من إعادة بناء العقد الوطني والهوية الجامعة.
وأخيراً، يجب الحذر من استخدام الهويات الفرعية – الدينية، القومية، الطائفية أو المناطقية – كورقة ضغط في أيدي القوى الإقليمية والدولية، لأن ذلك يعمّق الانقسامات ويُعيد إنتاج النزاع تحت أشكال جديدة.
إن الهوية الوطنية السورية ليست مفهوماً مستحدثاً، بل هي حصيلة قرون من التفاعل بين مكونات الشعب، بكل تنوعه الثقافي واللغوي والديني. وقد ساهمت جميع هذه المكونات في بناء تاريخ البلاد وثقافتها ومؤسساتها. واليوم، يقف السوريون أمام فرصة تاريخية لإعادة اكتشاف هذه الهوية الجامعة، وتطويرها لتصبح هوية مواطنة تقوم على أسس ديموقراطية، لا على الهيمنة أو الإقصاء. إنها لحظة تأسيس، تتطلب شجاعة وصدقاً، وإرادة وطنية تتجاوز الماضي نحو مستقبل مشترك يستحقه الجميع.