على العكس تمامًا مما هو مفترض، أظهرت تركيا طوال الأيام الماضية أعلى درجات الرفض لما تتعرض له إيران في الحرب الأخيرة، بل أعلنت وقوفها الصريح إلى جانب إيران واستعدادها لدعمها، خصوصًا سياسيًا، ففتحت حدودها أمام الفارين الإيرانيين، واستقبلت وزير خارجيتها، وصار الرئيس أردوغان يقول صراحة: “متأكد من انتصار إيران!”، وهي أمور لم تفعلها أية دولة إقليمية أخرى، إلا بشكل بروتوكولي، وقليلة هي الدول العالمية التي اتخذت مثل هذا الموقف.
يحصل ذلك في وقت تُصنِّف فيه كل تقارير مجلس الأمن القومي التركي إيران كمصدر قلق شديد وأول لتركيا، يتجاوز إسرائيل نفسها. فحتى في عزّ سنوات الحرب الباردة، كانت تركيا تعتبر إيران دولة تمسّ الأمن القومي أكثر من الكتلة الاشتراكية كاملة، التي كانت تخوض فعليًا حربًا ضد تركيا، لتصنيفها كتابع سياسي وعسكري لدول حلف الناتو. إذ لا تتوانى تركيا مثلًا عن التصريح برفضها الشديد لكل المشاريع العسكرية الاستراتيجية لإيران، كمفاعلات تخصيب اليورانيوم أو برامج الصواريخ الباليستية، أو دعمها الواضح لتنظيمات سياسية ومسلحة داخل تركيا، مثل “حزب العمال الكردستاني” و”الحركات الإسلامية المتطرفة” و”التنظيمات العلوية”، أو إثارتها للنزعات الطائفية في الداخل التركي… إلخ. لكنها، ومع كل ذلك، تعتبر الدفاع عن إيران أمرًا حتميًا ودفاعًا عن الأمن القومي لتركيا نفسها!
تُبادل إيران تركيا النزوع/التباين نفسه، وعلى الدوام. فبينما تُصنِّف إيران تركيا كنقيض سياسي وأمني في كل تفصيل، وتعتبرها المنافس والند الإقليمي الأول، إلا أنها لا تنجرّ قط إلى مسّها أو الصدام معها، بل تفعل كل شيء لحماية ترسانة العلاقات الاستراتيجية معها. فحتى أثناء أعلى درجات استقطاب الطرفين على دفتي الصراع الإقليمي المفتوح (2012–2017)، بسبب الموقف من داعش والنظام السوري السابق، كانت علاقات الطرفين تُسيَّر بسلاسة استثنائية، وثمّة حوادث تاريخية لا تُعدّ لكثرتها، كانت إيران في كل واحدة منها تناقض تركيا سياسيًا، لكنها تنسق معها وتحافظ عليها فعليًا.
التباين الواضح بين هذين المستويين من العلاقة بينهما نابع من أصول سياسية تاريخية سحيقة، ككيانين وارثَين لإمبراطوريتين رئيسيتين في المنطقة، ما يزال الإرث والخيال والسلوك الإمبراطوري يؤثر ويشكّل آليات فعلهما السياسي حتى الآن. وهما يتصرفان حسبما يُملي ذلك السياق الإمبراطوري، الذي يحفظ لهما موقعًا وطاقة فائضة من الحضور السياسي والنفوذ الأمني والطاقة الأيديولوجية في عموم المنطقة، يتجاوزان بها كل ما بحوزة الكيانات الإقليمية غير المستندة إلى الجذور الإمبراطورية.
فكل من تركيا وإيران تعرفان جيدًا أن تفكك وتهاوي أي واحدة منهما، سياسيًا وأمنيًا، سيؤدي عمليًا إلى بروز الأقليات العرقية والدينية والمذهبية داخلها، وتاليًا ستظهر على مسرح التاريخ المعاصر للمنطقة، مطالبة بحقوقها السياسية وحضورها وتمثيلها في هياكل السلطة، بشكل تعاقدي واضح مع الجماعة المركزية المكوِّنة للنواة الصلبة للسيادة في أي من الدولتين/الإمبراطوريتين. تركيا وإيران متيقنتان من أن حدوث ذلك في أي منهما، سيؤدي بآلية ميكانيكية إلى حدوثه في الدولة الأخرى، أو تشجيع حدوثه على الأقل. وهذا ما يمسّ جوهر الأمن القومي/السلطوي في كلٍّ منهما.
ففي المسار العراقي مثلًا، وحسب التغيرات الجذرية التي حدثت خلال أعوام التحوّل الجوهري في المشهد العراقي (2003–2008)، وعلى الرغم من المواقف المتناقضة للدولتين من مسألة تغيير النظام العراقي السابق، إلا أنهما كانتا متطابقتين وعلى أعلى درجات التناغم والتنسيق فيما يخص منع الجماعات الأهلية العراقية من الظهور العلني والدستوري على المسرح السياسي للعراق. أُعيدت الكَرّة وأُكِّدت في السياق السوري. فحتى حينما وصل الخلاف إلى درجة الصدام بينهما في الداخل السوري، بقِيَا محافظَين على شعرة التنسيق عبر “مسار أستانة”، ورفضتا مطلقًا أن يكون للجماعات الأهلية والعرقية السورية حضور سياسي معترف به وشرعي، حتى لو أدى ذلك إلى نهاية الحرب السورية.
كذلك تعرف الدولتان/الاستثنائيتان أن آليات ربط وإتباع أيٍّ منهما للدول الإقليمية الأصغر حجمًا بمجالها السياسي العام، يخدم الدولة الأخرى في نسج “أواصر التبعية” مع ما بقي من كيانات. فمنذ نهاية الحرب العالمية الأولى، مرورًا بسنوات القلق بين الحربين، ووصولًا للحرب الباردة، وحتى الآن، لم تتوانَ الدولتان عن استخدام الخطابات العرقية والدينية والمذهبية والأيديولوجية الحادّة المتباينة، تطلعًا لربط سلسلة من الدول الإقليمية المحيطة بكلٍّ منهما. لكن آلية استتباع أيٍّ منهما كانت تخدم الأخرى على الدوام، فلولا الخطاب الطائفي/الشيعي الإيراني مثلًا، لما استطاعت تركيا أن تعرض نفسها كمنصة للإسلام السياسي السني، وهكذا.
أخيرًا، فإن الدولتين/الإمبراطوريتين مأخوذتان بفكرة جوهرية، تشكّل قاعدة وعيهما السياسي لنفسيهما وللعالم من حولهما. فهما تعتقدان بأن مجموع القوى الغربية، ومنذ أوائل القرن التاسع عشر، يملك جموحًا متلهفًا للحضور والهيمنة على هذه البقعة من العالم، لأسباب اقتصادية وأيديولوجية وأمنية تاريخية معقدة، مستندين إلى سلسلة كبرى من الحوادث والدلالات على ذلك. تفترض هاتان الدولتان/الإمبراطوريتان أن ذلك النزوع الغربي يؤدي بالضرورة إلى تفككهما، وإنْ بتقادم تاريخي بطيء، ويسردان سلسلة من الحوادث التاريخية التي حدث فيها ذلك. ولأجل ذلك، تعتبران التنسيق المتكامل والمطلق بينهما هو الأس المنطقي الذي يمكن لهما أن يُصدّا سويّةً هذا المشروع الغربي الكبير، كما تعتقدان.
